fbpx

مواجهة التشدّد الديني داخل الفكر الجمعي؛ تجارب من التاريخ

تتضح معالم الفكر الديني المتشدد وملامحه عموماً داخل المتّحدات الاجتماعية المعادية للبحث والاجتهاد والتجديد التي غالباً ما يلتزم أفرادها باختيار القوالب الجاهزة والجامدة الرافضة لمراعاة الزمان والمكان وانعكاساتهما على تطور الفكر الإنساني. وعلى الرغم من الانغلاق المعرفي والثقافي والمجتمعي السائد، يغلب على أصحاب هذا الفكر مبدأ “العالمية” وعدم الاعتراف بالحدود بين الدول والبلدان الإسلامية، ما يدلّ على تناقضٍ عجيب في كيفية التعاطي الذاتي والموضوعي داخل تركيبتهم الذهنية. من هنا، فإن الحلّ الأنجع لمعالجة انتشار الفكر الديني المتشدد داخل تلك الأنماط يجري استنباط خطواته ومراحله الرئيسة من البُنية المكوّنة لذلك التناقض المشار إليه. وفي ظننا إن الخطوة الأولى تتمثّل في نشر مفهوم “المواطنة” بصورته الاجتماعية التي تضمن حرية المعتقد والممارسات السياسية والدينية، وزرع هذا المفهوم داخل الأدبيات التي تتبناها تلك المجموعات. ويستلزم ذلك دراسة التجارب التي أفرزتها وتدرّجت بتطبيقها النظم الديمقراطية الحديثة منذ بدايات عصر النهضة والتنوير في أوروبا وصولاً إلى هذا اليوم. ولردم الهوّة الشاسعة التي شكّلتها المجموعات الإسلاموية الجهادية مؤخراً بين أطياف المجتمع الواحد، لا سيما داخل مجتمعات دول “الربيع العربي”، ودعم بعضها في نفخ (ذاتها الجمعية)، يجب علينا اليوم إشراك جميع الأطياف من دون استثناء في كافة الاستحقاقات التي فرضتها تلك النظم الديمقراطية التي ذكرناها، كالمشاركة في الانتخابات والاستفتاءات وغيرها من الاستحقاقات. للتمكن من تحقيق تلك الخطوة بصورة فاعلة، فإن المجتمعات الخارجة مؤخراً من تجارب الإسلام المتشدد، المتمثلة في تنظيمي “داعش” والقاعدة وغيرهما، تحتاج إلى وضع قوانين جديدة ناظمة لعلاقات الأفراد والجماعات بين بعضهم من جهة، وبين الأخيرين والدولة من جهة أخرى، من دون تمييز بين فريق وآخر، دينياً كان أم طائفياً أم إثنياً. وعلى الرغم من قِدمها التاريخي، لكن لا ضير في الاستفادة من تجربة الثورة الفرنسية (1879) التي شكلت القوانين الضامنة لحقوق الإنسان والمساواة بحقّ “المواطنة” أهم إفرازاتها، بصرف النظر عن الدين والعرق واللغة؛ تلك القوانين التي ما تزال مُعتمدة في شتّى دول العالم ومن بينها القانون الجزائي السوري قبل إضافة المواد الخاصة بالنظام الشمولي الحاكم اليوم بصفتها مواد الجرائم السياسية والخاضعة لمحاكم أمن الدولة الاستثنائية، وكذلك قبل تجيير مواده لتوافق بعض مواد قانون الأحوال الشخصية المُستمد شكلياً- من الفقه الإسلامي. وعليه، فإن من أهم الخطوات الواجب تنفيذها ووضْعِها في قمة هرم الأولويات تتمثل في صوغ دستور دقيق وشامل للبلاد، يتمخّض عنه دراسة كاملة تمهّد لسنّ قوانين عادلة من شأنها أن تزيل الفوارق المجتمعية داخل الدولة الواحدة، لا سيما التي عانت تسلّط التنظيمات الدينية المتشددة وعلى رأسها الدولة السورية التي شهدت تغلغل كلّ من تنظيمي “داعش” والقاعدة (النصرة) داخل مكوناتها الاجتماعية في المدن والبلدات التي سيطرت عليها، عسكرياً وسياسياً وفكرياً وتعليمياً، مستهدفة الرابط العشائري والقبلي خصوصاً في المنطقة الشرقية ذات التوزّع العشائري الكبير، فعملت على أدلجة ذلك المكوّن من خلال بثّ أفكارها داخل رجالاته ومكّنت بعضهم من التحكم بأفراد العشيرة بدعم من التنظيمين؛ ما خلق نظاماً جديداً أقرب ما يكون إلى نظام “العشيرة الدينية” أو “القبيلة الحزبية”. ومن التجارب التاريخية التي يمكن للتجربة السورية الاستفادة منها أيضاً، على الرغم من محدوديتها واختلاف شخوصها وعوامل نشأتها، التجربة الجزائرية على سبيل المثال. إذ عانى المجتمع الجزائري -خلال تسعينيات القرن المنصرم- الصدام الدامي الذي شكّل طرفاه تنظيم “جبهة الإنقاذ الإسلامي” والنظام الجزائري؛ إذ حوّل الجزائر إلى ساحة دامية من الصراع الدموي الذي دفع ثمنه المواطنون الجزائريون قبل التمكّن من مصالحة الأطراف المتنازعة وإشراكها في المشهد السياسي الجزائري، وتبنّي آلية “العدالة الانتقالية” القائمة على مبدأ “المسامحة” النسبية بين الفرقاء. من التجربة الأخيرة نستنتج أن آلية التطبيق الصحيح لمفهوم “العدالة الانتقالية” داخل المجتمع السوري سيحقق نتائج إيجابية في المستويين السياسي والاجتماعي إذا ما استند إلى مبدأ المحاسبة المقرون في بعض جوانبه بمبدأ “المسامحة” و”المصالحة” بين مكونات المجتمع التي مزّقت روابطها سيطرة مفهومات التنظيمات المتشدّدة وتطبيقاتها العملية في السابق. وكما شكّلت الأنظمة العشائرية والقبلية والحزبية عوامل مساعِدة لانتشار تلك المفهومات الغريبة على المجتمع، فستكون عوامل مساعدة لتسريع القضاء عليها إذا ما حدث تفعيل آلية المصالحة الاجتماعية بالصورة العادلة مستقبلاً.

مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي ;مينا;

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى