fbpx

الطيب تيزيني وقد نجا

اختلفوا معه، ولم يختلفوا عليه.. ورحل الطيب تيزيني، وفي رحيله نجاته، كما في حياته مخاطرته.. كلّ المخاطرة، وكلّ النجاة. ـ مخاطرة في رفع الغطاء عن ثقافة الأدغال وافتضاحها. ـ ونجاة من أن يصغر أو يصغّر القيم الشاهقة التي حملها الرجل الشاهق، وقد حملها مرتين: الأولى في مشروعه النهضوي، والثانية في سلوكه الشخصي. في مشروعه النهضوي، قرأ التراث، بما له، وما عليه، وامتد في المعاصرة، ليكون أوّل المبشرين بثورة الناس على الاستلاب، الظلم، هدر الحق. وفي سلوكه الشخصي، اختار الكفاف، فكان زهد الفضيلة وكبرياء المعرفة. وهاهو يعلن رحيله، ومع رحيله، كانت الرسالة التي استكملت رسالة حياته: ـ حسّ الشعب يسبق أيّ فكر وأيّ صوت. وفي حسّ الناس، مشى الكل في جنازته.. مشت سوريا كلها، من اختلف معه، ومن توافق، والصوت الذي حاول كسر القاعدة والنيل من رجل لايُنال منه، بدا صوتاً عاجزاً مشلولاً، ينقصه شرف الكلمة وجدارة المعنى. في رحيله قال ما لم يقله في حياته، قال: ـ الناس، كل الناس تبحث عن المناقبية، وتخطو نحو حاملها، ليؤكد فيما أكده بحياته: ـ قوّة الأمل، وعظمة الألم. قبل “الثورة”، كان “ثورة”.. ثورة معرفية، وبداية الطريق نحو أن نفكّر بما يستدعي التفكير.. نسأل ما تستدعيه الأسئلة.. نحاور دون أن نفقد زمامنا. ومع الثورة لم ينسحب من المشهد.. كان المشهد واضحاً، جلياً ومقروءاً، وكان خطه هو الطريق السلمي في الوقت الذي كانت بنادق الطغيان وأقدامه تنقضّ على الرجل المتعَب وقد نالت الشيخونة من جسده، فيما توقّدت حكمته فعرف مالم نعرف، وتنبأ بما لم نتنبأ، وتحاشى لعبة الدم وقد دعى الى تقديس دماءنا وهو من دمنا، ومن حقه أن يكون ولي دم، فالضمير هو الأب والجد والخال والعم وهو الأمومة أيضاً. رحل الطيب، حدث ذلك، تماماً كما يحدث للفلاسفة، للزارعين، لعمال الحجارة، وكما يحدث للأباطرة والجلاّدين وقاطعي الطريق، فاالموت هو الموت باختلاف “الميت”. على الجهة الأولى، بكاه شرفاء سوريا، ومشت بجنازته الأمهات المثكولات والآباء المحرومين، وعلى الجهة الثانية: ـ ليس للجلاد من يبكيه أو يعزي به. في حياته قدّم المثَل الأعظم عن الفيلسوف وقد رأى مالم نرى. وفي مماته قدّم المَثَل عن قوّة الشرف.. قوة الزهد.. قوّة الكلمة التي تقال حيث يجب. رحل الطيب، ومازلنا ننتظر منه أن يقول لنا: ـ نجوت. نجا الرجل وقد امتدت يده لنجدتنا. هكذا رحل الطيب تيزيني.. هكذا رحل. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى