انتهت داعش وبقيت ثقافتها؟!
لا يوجد عذاب كابده أحد في الدنيا يعدل عناء تلك البلدات المنكوبة بنظام الخلافة المشؤوم، الذي مارسه التنظيم المتطرف وأطلق عليه عنواناً صادماً: الخلافة على منهاج النبوة، وربط كل ممارساته المتوحشة بنظام النبوة في قراءة سوداء للتاريخ الإسلامي يستمعون القول فيتبعون أسوأه. ولكل أجل كتاب، وقد مضت السنوات الخمس التي عايش الناس فيها تحولات داعش وممارساتها الرهيبة على الأرض، ونهايتها العسكرية الطاحنة التي دفع أهل الشرق السوري أفظع الأثمان في مواجهتها وتحمل نتائجها الرهيبة. وعلى هامش صور المأساة التي يتداولها السوريون من الحرب الطاحنة شرق الفرات فإنني أود أن أسجل قراءتي في خمس ملاحظات على مشهد الخروج الرهيب من أنفاق تورا بورا في الباغوز: الأول: أعلن البيت الأبيض أن قوات سوريا الديمقراطية تحتجز 1000 أسير من داعش من جنسيات أجنبية ودعت الحكومات المعنية أن تتسلم رعاياها وتتولى محاكمتهم وحسابهم. وترجح التقديرات أن 500 منهم من رعايا العراق والأردن ولبنان من دول الإقليم إياه، فيما يكون نصف الأسرى الباقين من جنسيات دول المغرب العربي، ونحو 250 مقاتل من الجنسيات الروسية والأوربية. إن إعلان الواقع الدقيق يخدم الحقيقة ويؤكد أن داعش هي أولاً نتاج للظلم والقهر والتهميش، وأن العنصر الإيديولوجي فيها جزئي ومحدود، فالمقاتلون من داعش تجاوزوا خمسين ألف مقاتل في فترة صعود التنظيم، وبذلك فإن الأجانب منهم لا يزيدون عن واحد بالمائة، وهؤلاء هم نظرياً القادمون على الخلفية الأيديولوجية لداعش، فيما انخرط سائر المحاربين في هذا التنظيم لأسباب أخرى مختلفة. الثاني: إن أسرى داعش الذين قدمتهم الكاميرات في غالبيتهم المطلقة هم أبناء المناطق المنكوبة إياها، فالحقيقة التي يجب أن نعترف بها أن داعش في سوريا سوريون وداعش في ليبيا ليبيون وداعش في العراق عراقيون وداعش في اليمن يمنيون، وعلينا البحث عن الأسباب الحقيقية التي تدفع الناس للالتحاق بهذه التنظيمات المتطرفة، فالخيارات السياسية والفقهية لا تبدو أمراً ذا بال بالنسبة لهؤلاء المنكوبين، من عشائر وقبائل وهي أبعد ما تكون عن فهم عميق للفقه المتطرف الذي يحمله القادة الإيديولوجيون لداعش وأخواتها في هذا الجيب المنكوب. إن انتقال شخص ما إلى التطرف لا يمكن أن يكون مجرد خيار عقدي، بل يجب الاعتراف بأن أكبر وقود لإشعال التطرف هو الظلم الذي مارسه النظام وحين كانت طائراته تقصف منازل المدنيين وتصرع أطفالهم ونساءهم كان بشكل طبيعي يدفع الناس للالتحاق بهذا التنظيم المتطرف بوصفه اكثر سبل الانتقام نجاعة وتأثيراً. الثالث: إن الثقافة التي أنتجت الفريق العقائدي لداعش هي ثقافة لا تزال تحظى بمباركتنا في المدارس الشرعية، فعلة سبيل المثال نحن لا نزال ندرس نص أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ولا تزال ثقافة الجهاد والعلاقات الدولية السائدة هي ثقافة القسمة الثلاثية القائمة على قاعدة: الإسلام أو الجزية أو السيف. وحتى لا أتهم بالمبالغة فيكفي أن تستمع اليوم إلى أشرطة الداعية المصري وجدي غنيم الذي يملك قدرة خطابية استثنائية ولا يزال يردد الإشادة بالخلافة التي أنشأتها داعش على منهاج النبوة، ولا يزال يطل كل يوم ليذكر بالثناء والفخر تطبيقهم للشريعة باعتباره تحقيقاً لمراد الله وإحياء لشريعته. وفي مثال أقرب فقد انتشرت قبل شهور محاضرات الشيخ الشعال وهو أحد الشيوخ المهذبين اللطفاء وهو طبيب سوري يعمل في التربية وفيها نص يممكن متابعته ببساطة في اليوتيوب عن حكم تارك الصلاة، وفقه يقول الشيخ الكريم إن تارك الصلاة على نوعين: النوع الأول: إن ترك الصلاة كسلاً فهذا يستتاب وإلا قتل حداً. النوع الثاني: من تركها جحوداً فهذا يستتاب وإلا قتل كفرا!! والفرق بين القتل حداً والقتل كفراً أن الأول يقتل ويغفر له فيغسل ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين؛ وأما الثاني فيقتل ولا يغفر له ولا يغسل ولا يكفن ولا يدفن في مقابر المسلمين. إنها ببساطة ثقافة لا تزال تتلى في معاهد الدرس وتبدو ممارسات داعش والنصرة في جلد تارك الصلاة كل جمعة رحيمة ولطيفة أمام فتوى القتل التي يطلقها مشايخنا على منابر الجمعة. ما لم نقم بمراجعات عميقة في فضح مصادر هذا التصور الدموي الذي تسلل إلى الفقه الإسلامي ونحصن شبابنا من الانخراط في ثقافة كهذه فنحن لا نزال نكرر أنقسنا وعلينا أن ننتظر بمرارة النسخة الجديدة من تنظيم داعش الرابع: إن الأسباب الجوهرية لقيام لداعش لا يجوز اختصارها في المعنى الإيديولوجي فهو في الواقع لا يشكل إلا جزءاً من الثورة وعلينا أن نؤكد أن السبب الجوهري في ظهور هذه الحركات المتشددة هو غياب العدالة، ولو أن الخليفة البغدادي جاء مع أصحابه العشرة المبشرين وولي عهده الأمين إلى بلد فيه عدالة وقانون فإنه لن يحظى بأي أتباع، وسيواجهه المجتمع بصرامة، ولكنه إنما يجد الفرصة مهيئة لاستنبات فصائله وكتائبه في تلك البلاد التي تموت فيها العدالة ويستيقظ التوحش، وفي سياق كهذا فلن يكون أمامنا إلا توقع المجهول. وحتى لا أتهم بالسطحية فإن علي أن أبيَّن تماما أنني لا أجهل الشرط الدولي الذي أفرز قيام داعش وأخواتها، وهو مشهد يتم فيه الرقص على الحبال بين مصالح الدول الكبرى، فداعش ضرورة للاستبداد لتبرير جرائمه في خنق الحريات وقمع الثورات، وداعش ضرورة للروس والأمريكان لتبرير وجودهم في المنطقة وقتالهم ضد الإرهاب، وهذه العلاقة من التخادم لا تعني ضرورة التواطؤ بين هذه البلدان، ولا تعني ضرورة أن داعش صنيعتهم إنها صنيعة ظروف معقدة فيها الجانب العقدي والجانب السياسي والجانب الاجتماعي، ومن المستبعد ان تنقرض مرة واحدة وعلينا في ظل المعطيات الحالية أن ننتظر طلوعها من أفق آخر في هذا العالم الإسلامي المنكوب. إن القيادات الدولية ذات المشروع الإيديولوجي العقائدي لفكر القاعدة وتنظيم الدولة هي شأن منفصل تماماً عن آلية التجنيد والتسويق التي تتم بطريقة مختلفة تماما وهؤلاء الذين قدمتهم الكاميرات هم أبناء الشرق السوري من ديرية وحسكاوية ورقاوية هم في الواقع ضحية الحاجة والقهر والبحث عن الرزق الذي كانت داعش توفره لهم عبر الاستيلاء على مصادر الدولة وأساليب التجنيد الاحترافية. الخامس: إنني أؤكد رأيي الذي رفضته مراراً وهو إقدام المجتمع الدولي على تصنيف تنظيم ما بأنه إرهابي وبالتالي قطع كل سبيل للتحاور أو التفاوض مع الإرهابيين واختيار سبيل السحق العسكري سبيلاً واحداً للتعامل مع هذه الكيانات، وقناعتي ان هذا الخيار أغلق سبلاً كثيرة كان يمكن بها أن نجنب بلاداً كبيرة شر الدمار والانهيار عبر المفاوضات والحوارات مهما كانت طبيعة الإيديولوجيا التي يعتنقها المتطرفون، فالمواقف المتصلبة التي كانت تبديها داعش في رفض أي حوار تغيرت مع الأيام، وحين باتت داعش أضعف مما كانت كان بالإمكان التفاوض معها وتأمين اتفاقات تنهي سيطرتها العسكرية دون خراب البصرة والرقة والموصل والباب ومنبج والبوكمال وغيرها من البلاد المنكوبة. لا يمكن افتراض هذه الألوف المؤلفة التي يتم اليوم أسرها واعتقالها محض مجرمين قتلة، إنهم من جانب آخر يمارسون شكلاً من الثورة التي يؤمنون بها وهو إيمان تنامى بحجم الفشل الذي تسببت به الأنظمة العربية المتعاقبة والتي أقنعت الشاب الحائر بعقم الحلول التي يمارسونها وان علينا أن ننزع شوكنا بأيدينا. قناعتي أن غياب العدالة وغياب الإصلاح الديني وبقاء الأسئلة مبهمة بلا جواب سيحمل دوماً بذور انفجار جديد، ويؤلمني القول بمرارة إن هذه الشرو كلها لا زالت متوفرة ومن الممكن أن نشهد جولة أشد قسوة من هذا العنف والتوحش. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.