fbpx

التبعات الاجتماعية للحرب في سوريا

مسألتان تواجهان تجاوز الأزمات التي نتجت من الحرب السورية، الأولى هي عقدة الإنكار لهذه الأزمات، والثانية هي تغيير شكل الأزمات أو (تمويه) ماهيتها بحيث تبدو في غير صورتها الحقيقية، وهو ما يجعل المعالجة الاجتماعية أو النفسية للمشكلات الاجتماعية غاية في التعقيد، فعندما لا نريد الوصول إلى التوصيف الحقيقي للأزمات، فمن الطبيعي جداً أن تكون الحلول بعيدة المنال. فمسألة التوصيف الدقيق للأزمات الاجتماعية، إنما تعني أولاً وضع اللبنة الأولى لتجاوزها، فكيف إذا كانت تلك الأزمات التي نحاول تجاهلها تعصف بأكبر مكونات المجتمع، وهما المرأة والطفل.

  • أولاً: في مسألة عقدة الإنكار

الإشكالية الأولى التي تواجهنا اليوم وغداً تتمثل في عقدة الاعتراف بوجود تلك المشكلة أصلاً، وهو ما تحاول فرضه الأنماط المجتمعية ذات الطابع العشائري أو القبلي وغير ذلك مما يسمى بالموروث الاجتماعي، إذ ترى في المجتمع الذكوري أداة الحل والربط، وقد تقبل هذه الأنماط بوجود المرأة في ميدان العمل، أو تتيح لها الفرصة للمشاركة في الحياة الاجتماعية، لكنها لا تقبل بتاتاً محض مناقشة المشكلات والمتغيرات الاجتماعية التي تعيشها المرأة، حتى لو كانت تلك المشكلات من صميم الأزمة التي تعيشها المرأة في ظل الحروب، وهذا أحد الجوانب التي تبقي معاناة المرأة كامنة وغير قادرة على الخروج منها. في مشهد ثانٍ: قد نكون أمام صورة المرأة الطبيبة، أو المدرسة، أو التي تعمل في قطاع الإعلام وغيره، وقد تبدو القصة أننا أمام صورة نموذجية، لكن هذه الصورة المحدودة جداً، ليست توصيفاً شاملاً يعكس الجانب الآخر المظلم في الحياة الاجتماعية، ما يعني أننا قد نشاهد مؤسسات اجتماعية ذات طابع نسائي، لكنها تشبه في توصيفها تلك الجمعية النسائية التي يرأسها رجل، بما يعني أن معالجة المشكلات أولاً وأخيراً لا يقوم على قاعدة تخصصية واضحة، بمقدار ما يقوم على الموقف الاجتماعي منها الذي هو توصيف الرجل ورؤيته لهذه المشكلات. في جانب آخر، هنالك المرأة الضحية التي يمكننا مشاهدتها من خلال ذلك الخط البياني الذي يمتد إلى أعماق البنى الاجتماعية التي تحاول التخلص من هذه الأزمات الاجتماعية بمحاولة كتمانها عن الوجود، مثال ذلك، ضحايا الحرب من الأرامل والمعتقلات وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم، وما يلحق بهم من الأطفال الذين تتخطفهم أسواق النخاسة بسبب الفاقة، فالأولاد الذكور يذهبون إلى العمل في سن مبكرة لأجل لقمة العيش، وأما الفتيات الصغيرات فيذهبن إلى الزواج المبكر، وهذه حكاية يومية من المعاناة التي باتت تنخر المجتمع السوري بسبب الحرب. وقد لا يكون غياب الرجل من العائلة سبباً لذلك فقط، فمسائل مثل العوز وشدة الفقر باتت تدفع ملايين السوريين إلى التضحية بالمستقبل التعليمي وغيره، لأجل ضمان الحصول على لقمة العيش فقط. أضف إلى ذلك مسائل جوهرية، تحدث دائماً ما بعد الحروب، فهل يحق لنا مناقشة قضايا مثل الأزمات الأخلاقية التي تعمل بعض وسائل إعلام المعارضة على عدّ الحديث فيها خطاً أحمر. وهل يمكن التفكير بمعالجات جوهرية، خصوصاً أن لدينا أعداداً كبيرة من المعتقلات، أو ممن تعرضن لابتزاز النظام وأدواته، أم أننا ملزمون بالصمت، ومن ثمّ القبول بحلول القبيلة التي ظلت طوال الأعوام الماضية محض حلول بشعة ومميتة.

  • ثانياً: في مسألة تغيير ماهية المشكلات الاجتماعية

الرائد الأول في هذا المجال هو ما تقوم به الجماعات الإسلامية وما يلحق بها من ذوي العباءة الإسلامية، وهؤلاء لديهم وسائلهم الخاصة لإنكار المشكلات الاجتماعية، من خلال عدّها نوعاً من الذنوب لا غير، والأمر لا يعدو لديهم أن تكون صاحب خطيئة أم لا، لأن رسالة الإسلاميين في الأغلب، ليست رسالة لإعادة بناء البنية الاجتماعية أو ترميمها، وإنما هي رسالة تقوم على عدّ المجتمع ذاته غارقاً في التقصير تجاه الدين، ولذلك فإن جل رسالة الإسلاميين إنما تقوم على ضرورة توجيه الناس إلى العبادة فحسب، لأن -ومن منظورهم- توجيه الناس نحو العبادة سيحل مشكلاتهم الاجتماعية، لأنهم يفترضون أن مشكلة عموم البشرية هي مع الله، وليست مع الذين صنعوا هذه المشكلات، وهذه بحد ذاتها أزمة عميقة، يصعب إخراجها من عقول الإسلاميين. إذا أردنا أن نعود بالإسلاميين إلى دولة المدينة المنورة التي يرونها نموذجاً يريدون بناء شبيه له كما يدعون، نجد أن المسلمين كانوا بعد أي واقعة حربية، وقبل عودتهم إلى المدينة، يقومون بحل المشكلات الاجتماعية التي نتجت بعد تلك الحرب، ومن بينها إعلان خطبة النساء اللواتي فقدن أزواجهن، حيث كان في ذلك المجتمع هذا هو المدخل الأهم لحل المشكلات الاجتماعية التي خلفتها تلك الحرب، بما تعنيه من الإنفاق أو الاهتمام بالأيتام، وهو ما نسميه اليوم التفكير بالتبعات الاجتماعية في وقت مبكر، وعدّ المجتمع بنية واحدة يحتاج إلى حل شامل لا إلى حلول جزئية منقوصة. في الجانب الديني الآخر، دعونا نرى سورة قريش في القرآن الكريم، فالآية واضحة وتقول فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ 3 الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ 4. (قريش). وما تعنيه هذه الآية واضح تماماً، وهو أن الله طلب من الإنسان في مكة المكرمة العبادة بعد أن حقق له أمرين، الأول وهو الأمن الغذائي، والثاني وهو الأمان الشخصي، فما بال الإسلاميين اليوم، وبدلاً من تفكيرهم في كيفية حل المشكلات الاجتماعية للحرب، تراهم يكيلون الاتهام للضحايا مفترضين أنهم سبب المشكلة بسبب تقصيرهم في عبادتهم. لذلك نحن أمام واقع اجتماعي غاية في البؤس، لا نشاهد مشكلاته على الطاولة في المنظور الحالي أو المرتقب، ويكفي أن يكون غير موجود بوصفه مادة أساسية يومية، لكي يكون مغيباً في عالم النسيان. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى