التاريخ الاشكالي الانتقالي في سورية

غسان المفلح
تركة الاسدية على البلد كانت ولا تزال ثقيلة ومخيفة. تحمل عناوين:
دولة شبه منهارة ومفلسة والفساد ينخرها من أساسها لرأسها، وخاضعة لعقوبات دولية قاسية. مجتمع معنف ومفكك ومنقسم عموديا، الشقاق داخل المكونات من جهة وبين المكونات من جهة أخرى، شبه انهيار للملاط السوري الجامع ماديا ورمزيا.
هذا نتيجة البناء الطائفي والتمييزي بين المكونات التي بنتها الاسدية على مدار 55 عاما، إضافة لعشرات الألوف من رموز الأسدية الذين ارتكبوا مجازر بحق الشعب السوري على مدار 14 عاما.
وأفقيا حيث يسيطر على مشهد الطبقة الثرية عموما محدثي النعمة من المتحالفين مع العصبة الاسدية وواجهاتها وأمراء الحرب والتعفيش من ضباط الجيش والمخابرات وعصابات الكبتاغون، كانوا يعيشون حالة من الترف والبذخ المتصنع والمتكلف، بدم الناس التي وصلت للبحث في حاويات القمامة نتيجة الفقر المرعب.
سلاح منتشر في البلد تركه جيش الأسد في الشوارع خلفه، وفصائل أمر واقع فرضت على البلد بدعم خارجي. كل الفصائل المسلحة بدون استثناء.
الفصائل التي استطاعت الوصول للحكم في دمشق والمتحالفة مع “هيئة تحرير الشام” المنحلة صارت جزء من السلطة. السلطة التي نجحت “هيئة تحرير الشام” بأن تكون كتلتها الصلدة والمسيطرة والأكثر حضورا وبقيت من الفصائل خارج السلطة قسد وفصائل السويداء ومعها فصيل أحمد العودة وبعض الجيوب الفصائلية هنا وهناك. هذه لوحة مكثفة جدا لوضع البلد لحظة هروب الأسد.
السؤال الأهم والمباشر: واقعيا كيف يمكن لملمة السلاح؟. ورمزيا كيف يمكن لملمة الملاط السوري الوطني في عقد اجتماعي جديد؟
الذي دخل جديدا على هذه التركة هو التاريخ الاشكالي الجهادي او غير الجهادي للفصائل التي سيطرت على دمشق واغلبية المناطق السورية. هذه الفصائل غير العقوبات التي فرضت على البلد، هنالك فصائل أيضا عليها عقوبات بتهم إرهابية، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام” المنحلة بكيانها ورموزها.
لهذا تم اسقاط العقوبة فقط عن الرئيس الانتقالي احمد الشرع. لا تزال العقوبات كلها تثقل وتعقد من الوضعية الانتقالية. إذا نحن أمام سلطة لديها تاريخ موسوم سلبا. تكفيري جهادي إرهابي. ومعها غالبية فصائل ما كان يسمى “الجيش الوطني السوري” الذي كان يتبع تركيا. هذه التي انخرطت مع السلطة تحت عنوان غرفة عمليات “فجر الحرية”. ولا تزال حتى اللحظة لم تنحل كليا، بل اندمجت في السلطة ككتلة واحدة، والسلطة تحاول حتى اللحظة إرضاء هذه الفصائل من أجل أن تندمج منحلة في السلطة.
لهذا شهدنا تعيينات وترفيعات لقادتها. كنوع من الرشوة أيضا. هذه الفصائل لا تزال بشكل عام تتصرف في مناطق سيطرتها وكأنها لاتزال في عفرين أو في اعزاز. لم تتحول فعليا حتى اللحظة لجيش سوري أو أمن عام سوري.
الخطر أن عناصرها لم تصل بعد للقناعة أنها تمثل دولة وتمثل قانون، بل هي الدولة وهي القانون في مناطق تواجدها وتواجد حواجزها. حتى من كان منها منضما للأمن العام. مما أدى إلى تعقيد في المشهد الانتقالي السوري.
وخروقات وانتهاكات على الغارب وجرائم كما حدث في المناطق العلوية بعد انقلاب الفلول الاسدية المسلح على السلطة. الأخطر هي الرسائل الرمزية في الذقون واللباس والملفوظات وبعض السلوك التي لم يعتدها معظم الشعب السوري. لاتزال المشكلة قائمة وهذه مهمة عاجلة وملحة لمعالجتها من قبل السلطة الانتقالية. هذا المشهد العسكري كان ولايزال هاجسا للسلطة قبل البلد، هاجسا امنيا طغى على سلوك السلطة نفسها. التي تحاول تغيير صورتها، وتحاول محي تاريخها الاشكالي.
السلطة تحاول لأجل مصلحتها، هي ليست سلطة تكفيرية الآن ولا جهادية ولا إرهابية. هي سلطة لم يتوضح بعد أين سوف ترسوا سفينتها الأيديولوجية. لأنها مجرد سلطة تحاول مسك البلد. وللسلطة دينامياتها وشروطها الخاصة التي لا تخضع لأيديولوجيات. بل لكل ما من شأنه المساعدة على ضبط السلطة والبلد الانتقالي.
لكن هذا التاريخ الاشكالي كان سببا من الأسباب غير المباشرة لكي تحارب السلطة به الفصائل التي بقيت خارج هذه السلطة، مثل قسد او احمد العودة المنحل او بعض فصائل السويداء.
إنها سلطة جهادية تكفيرية. وبمنطق أقرب للتكفير أيضا. تكفير وتكفير مضاد، ببساطة لأن هذه الفصائل لا تعرف الديمقراطية في أماكن سيطرتها، لا في الجزيرة السورية ولا في السويداء ولا في بصرى الشام قبل ان ينحل هذا الفصيل ويسلم سلاحه.
النقطة الأخرى هو حضور تاريخ السلطة الجهادي أيضا في شارع الأقليات وبعض الشارع السني. خوفا من سيطرة هذا التاريخ. ما قدمته السلطة من حلول حتى اللحظة لهذا الامر، غير كاف وغير صحي. وكانت حلولا اقرب للارتجال والرشوة.
كان آخر الإشكاليات إشكالية السويداء ومشروع الهجري وفصائله، هو مشروع تكفيري وطائفي بامتياز. مستفيدا من دعم عابر خارجي ومن تاريخ هذه السلطة ليحشد لمشروعه الذي انطلق حتى قبل سقوط الأسد.
ما حدث في تلك الواقعة السوداء بعد انتشار فيديو شتم الرسول، من انفلات مستفيدة منه بعض دوائر الإسلاميين المتشددين لكي تخرج مخزونها التكفيري. هؤلاء منهم من هو داخل أجهزة السلطة وفصائلها أيضا، ويبحث أيضا عن مساحة أكبر في القرار والتدخل بالبلد والسيطرة على الحريات الفردية للناس وهذا ما يؤكده سلوك بعض عناصر الامن العام في تأدية وظائفهم القانونية.
بالتالي كان يجب التحشيد على أساس طائفي. يريدون تحويل البلد إلى سلطة سنية طائفية باختصار. هذا كارثة على البلد بغض النظر عن المشاريع المقابلة. كارثة على مستقبله أيضا. هنا أيضا تتحمل السلطة مسؤولية انفلات هؤلاء.
يبقى السؤال: كيف تتخلص السلطة من تاريخها الاشكالي هذا؟ ليس لها معبر إلا بإنتاج عقد اجتمعي جديد يقوم على الديمقراطية وحماية حقوق الانسان ودولة القانون.
اعتقد أن من وقع ضحية وصار سببا إضافيا للإشكالية هي النخب التي تدعي الديمقراطية والعلمانية. حيث انجر معظمها ليكون مع طائفته واثنتيه ودينه، على مبدأ أنا وأخي على أبن عمي وأنا وابن عمي على الغريب. مما أضعف أيضا حضور معارضة ديمقراطية للسلطة عابرة للطوائف والأديان والاثنيات وزاد من هشاشة الملاط السوري المحطم أسديا أساسا. وفي ظل غياب مجتمع مدني وغياب منظماته عن النشاط من أجل تقريب السوريين من بعضهم
هنالك الكثير من التاريخ الاشكالي للحظة الانتقالية السورية تحتاج لمزيد من البحث من أجل تجاوز هذه المرحلة بأقل الخسائر البشرية والوطنية.