أخر الأخبار

الطائفة أنثى العقرب التي تأكل أبناءها

نبيل الملحم

كل ما نعلمه أن الله توقف عن إرسال الأنبياء، ولم نكن نعلم على وجه اليقين، لماذا دفع بهم إلينا، وقد بتنا رهائن لهم، لنغرق ونغرقهم في وحول الأزمنة، وحماقات الأزمنة.

الديانات إياها التي أنتجت سيّد درويش والسنباطي، هي هي التي انتجت أبو مصعب الزرقاوي، والديانة التي أنتجت باروخ سبينوزا هي هي التي أنتجت بنيامين نتنياهو، والديانة التي أنتجت الأم تيريزا، هي الديانة التي أنتجت أدولف هتلر، والأنبياء إياهم الذين غادرونا مع الاختلاف على رسائلهم ووصاياهم بل ورسائلهم وأحاديثهم، هم هم الذين نقتتل تحت راياتهم وصولاً لنشكّل دولنا تحت رايات أسمائهم، حتى باتت العقائد بلدوزراً متنقلاً لحرب أهلية هنا، وحرباً ثانية هناك، أما الحرب “الثالثة”، فما زالت تنتظر على بوابات هذا العالم، ولا من يطلقها بكامل هيبتها وعتادها ريثما ينتهي الضعفاء من التهام الضعفاء، تحت وطأة حكومات العقائد، وأحزاب العقائد، ودونما لحظة تأمل واحدة، في سؤال محتواه:

ـ إلى أين أخذت العقائد سكّانها؟

ليست المشكلة في وجود العقائد، بل في لحظة تحوّلها إلى نظام سياسي، أو تنظيمي مغلق، هنا يبدأ الإقصاء ويتحوّل المختلف إلى خطر وجودي.. في لحظة هذه الولادة تولد معها الفاشية، ليكونا توأمين سياميين لا ينفصل أحدهما عن الآخر إلاّ بموتهما معاً، والكلام لا ينطبق على العقائد الدينية وقد ركبت ظهر الدولة فحسب، لا، بل يطال فيما يطال العقائد الأخرى بمن فيها “الماركسية”، فتحت وطأة ستالين، تحولت الماركسية إلى إيمان سياسي مطلق، ومعها بات أي انحراف عن الخط خيانة.. ملايين قضوا في معسكرات الغولاغ، ولم يسلم حتى الأدباء، فكان انتحار “شاعر الثورة وملهِمها ماياكوفسكي”، وبقي مكسيم غوركي رهين الرعب حتى فارق رعبه بالموت.. بوريس باسترناك نُفي وقُتل بسبب قصيدة تسخر من شاربي ستالين.

ثورة “ماو” الثقافية في الصين، تحوّلت إلى محفة جثث واجتثاثا للمثقف والكلمة، وجرى دفع الملايين إلى معسكرات العمل اقسري، فيما اختار الأديب الصيني “لاوشه” الانتحار غرقاً وقد ألقى نفسه في بحيرة بكين مثقلاً بالحجارة.

ليس هذا حال الحكومات العقائدية وما تفعله فحسب، فالطائفة، مسوخ الدول، حين تتحول إلى معسكر مغلق، تبتلع أبناءها قبل غيرهم.. في لبنان والعراق وسوريا، صار الانتماء الطائفي جواز حياة أو شهادة وفاة.

مثقفون وكتّاب وناشطون وجدوا أنفسهم بين حدّين: إمّا التماهي مع خطاب الطائفة أو الإقصاء وربما القتل (القتل المعنوي ولابد يمتد إلى القتل الجسدي).

قهرمانات الشيعة قتلوا مهدي عامل وحسين مروة ربما انتصاراً للمهدي الذي طال انتظاره ولم يأت (ولن يأتي)، وقهرمانات السنّة اغتالوا فرج فودة وحاولوا مع نجيب محفوظ، وكفّروا عزت العلايلي.

الجماعات الإسلامية المتطرفة، لم تكتفِ بمطاردة المختلف دينيًا، بل حاكمت حتى أبناء المذهب الواحد.. كتاب وصحفيون وطلبة علم قُتلوا أو أُحرقت كتبهم لأنهم لم يتطابقوا مع “العقيدة الصحيحة”.. هذه الجماعات جعلت الدين، الذين يصفون بـ : “فضاء رحابة في أصله”، (وهو ليس كذلك وما من دين يحمل هذا الفضاء) يتحول إلى معسكر إجباري للولاء.

حتى الهندوسية بأعشابها وأرديتها البرتقالية، لم تدع الدين للممارسة الروحية، بل تحول إلى أداة قومية، أفرزت مذابح بحق المسلمين، واضطهادًا للمسيحيين.. كتّاب ومثقفون مثل آرونداتي روي، صاحبة “إله الأشياء الصغيرة” حوصرت ونُحرت، وأدباء هندوس وعلماء هندوس، ما زالوا يعيشون تحت ضغط التهديد والتخوين، لمجرد أنهم ينتقدون “القومية الهندوسية”.

ما يجمع هذه التجارب أن العقيدة حين تدخل إلى قلب السلطة تُحوِّلها إلى آلة قمع عمياء، تبدأ بمطاردة المختلف، لكنها تنتهي إلى ابتلاع أبنائها.

سيكون هذا حال الطوائف كذلك ما قبل أن تتحوّل الطائفة إلى سلطة، فالطوائف تتدرب على السلطة ريثما تصل إليها، ولحظتها تغدو:

ـ طائفة.

طائفة بجهاز قمع، وكتم أنفاس، وكل ما عليها أن تتعرف على حكاية الضفدع والعقرب الذي سيقطع النهر بعد أن ركب ظهر الضفدع.. لن يصل العقرب إلى الضفة الأخرى بسلام حتى يلدغ ظهر حامله، فالطائفة (مطلق طائفة) ما أن تتحوّل إلى سلطة حتى تلذغ أولادها.. أولادها أولاً .. أولاد طائفتها، وثمة الكثير من الأمثلة أمام أعيننا.. نراها، بل ونعرف شهودها وضحاياها.

ـ الحرية لا تولد من العقيدة المغلقة، بل من التعدد والشك.

وحده الاعتراف بالاختلاف يحفظ إنسانيتنا، أما حين تتلبس العقيدة بلباس النظام، أو الأفراد، فإنها لا تنتج إلا فاشية، لا يهم إن رفعت شعار الله أو الثورة أو الأمة.

ـ لن تنتج “العقائد” سوى فرد فاشي، نظام فاشي، أمّة فاشية.
فاشيّة منجزة، أو فاشية في طور الولادة، وحين تجوع، أوّل ما تاكل:
ـ تأكل أولادها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى