أخر الأخبار

الفاشية إذا ما تناسلت من بين الشقوق.. سوريا مثالاً

نبيل الملحم

ترتفع أصوات “الاستقلال”، والاستقلال بهذا المعنى هو الانفصال عن الدولة الأم نحو ولادة “دول” مشتقة منها ومنفصلة عنها، وهذه أصوات نسمعها في سوريا اليوم، وتحت أوهام (أو حقائق) الانفصال عن الدولة الفاشية، وهنا سيظهر السؤال:

ـ إذا كانت الدوافع مفهومة، فهل المآلات مرئية أو متوقعة أو مفهومة؟

ثمة مايستدعي العودة إلى تجارب بالوسع الاستدلال بها، ففي كل مرة تنهار فيها دولة فاشية، يخيَّل للناس أن النهاية اقتربت، وأن سقوط المركز المستبد يعني بداية طريق جديد نحو الحرية، لكن التجربة، مرارًا وتكرارًا، تقول شيئًا آخر:

ـ الفاشية لا تموت بسقوط الدولة الأم، بل تنجب نفسها في كيانات أصغر، وكأنها تتناسل عبر الشقوق.. كأنها ليست نظامًا سياسيًا فحسب، بل جينة كامنة في وعي الجماعة، تنتقل من العاصمة إلى الأطراف بمجرد أن يتفتت الكيان الجامع.

سيحدث هذا مع السوريين إذا ما استمرت دعوات الإنفصال عن المركز، وأقول:
ـ سيحدث.

كما لو ان الأمر محسوم، ويقيني وقطعي، غير أن للتاريخ روايته، ومرويات التاريخ، ربما تفكك الغامض، فهذه يوغسلافيا مثال صارخ.. كانت الدولة تُمسكها قبضة قومية صربية، سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية كبرى، وحين تفككت، لم يظهر نموذج ديمقراطي يعيد بناء العلاقات بين المكونات، بل ظهرت جمهوريات جديدة تعيد إنتاج قومياتها المتعصبة: “كرواتيا القومية، صربيا المتشددة، والبوسنة التي غرقت بينهما في الدم”. لكن القصة لا تُفهم فقط من الداخل، فالغرب ساهم في تكريس هذا الانقسام، حين دعم استقلال كرواتيا والبوسنة، بينما روسيا وقفت مع صربيا.

ـ الفاشية هنا لم تكن مجرد صراع محلي، بل أداة جيوسياسية في لعبة أمم أكبر.

في السودان، عاش الشمال لعقود تحت حكم عسكري إسلامي فاشي قائم على الإقصاء والتهميش، وعندما انفصل الجنوب عام 2011، بدا المشهد كأنه ميلاد حرية طال انتظارها، لكن الدولة الوليدة سقطت سريعًا في حرب أهلية بين الفصائل ذاتها التي خاضت حرب التحرر.. التدخلات الدولية غذّت الصراع بدل إطفائه: “واشنطن التي دعمت الانفصال لم تؤسس لسلام دائم، والدول الإقليمية المتنافسة وجدت في الحرب فرصة لبسط النفوذ.. انفصل الجنوب عن فاشية الشمال، لكنه وقع في فاشية جديدة، هذه المرة بغطاء إثني وقبلي، مع دعم خارجي متناقض لكل طرف.

العراق ما بعد 2003 يقدم صورة مركبة للفاشية المتوارثة، ففي بلد الرافدين لم ينقسم البلد رسميًا، لكن تفكك المركز البعثي فكانت النتيجة أنه أفرز سلطات أمر واقع: “إقليم كردستان ككيان مستقل فعليًا، ميليشيات طائفية في بغداد والجنوب، وتنظيمات جهادية في الغرب والشمال”.. الولايات المتحدة أسقطت النظام لكنها تركت وراءها فراغًا امتلأ بفاشيات محلية، كل منها يستمد قوته من دعم إقليمي أو دولي: إيران مع الميليشيات، تركيا مع بعض الفصائل الكردية والعربية، والخليج مع أطراف أخرى.

ـ الفاشية هنا لم تكتفِ بالوراثة الداخلية، بل تضاعفت بدعم خارجي جعلها أكثر رسوخًا.

وسوريا اليوم هي المثال الأكثر عُريًا، ففيها سقط المركز عن سيطرته على معظم الجغرافيا، فانقسم البلد بين سلطات أمر واقع: “نظام يصر على إعادة إنتاج الفاشية بوجهها القديم، معارضة مسلحة تحولت إلى أنظمة قمعية محلية، وإدارة ذاتية شمالية ترفع شعارات التحرر لكنها لم تفلت من منطق القبضة الحديدية”.. والتدخلات الدولية كانت العامل الحاسم: روسيا وإيران ثبتتا النظام، لتتخليا عنه ولا حقاً بسقوطه، فيما صنعت تركيا سلطات محلية في الشمال، أميركا رعت الإدارة الذاتية، وكل طرف غذّى فاشيته الخاصة.. النتيجة أن سوريا لم تتحول إلى فسيفساء ديمقراطية، بل إلى “متحف فاشيات صغيرة” برعاية إقليمية ودولية.

الظاهرة إذن ليست قدراً جغرافياً فقط، بل نتيجة تلاقي عاملين معاً:
ـ ذهنية محلية فاشية موروثة، وتدخلات دولية.

هذا التلاقي يجعل كل محاولة انشقاق عن الدولة الأم تتحول إلى فرصة لإعادة إنتاج القمع، فما لم ينجح الناس في كسر الذهنية الداخلية، ولم يكف الخارج عن استخدام الانقسامات كأوراق ضغط، فإن النتيجة ستكون دائمًا نسخة جديدة من نفس المرض.

هكذا نفهم أن سقوط الدولة الفاشية لا يعني سقوط الفاشية ذاتها، بل قد يكون لحظة ولادة جديدة لها.. الفاشية الكبرى تلد فاشيات صغرى، والانقسام الذي يبدو تحررًا ينقلب إلى إعادة إنتاج للقمع، والدرس الأعمق أن النجاة لا تكمن في تغيير الخرائط ولا في إعلان دول جديدة، بل في تأسيس ثقافة سياسية جديدة قادرة على تقاسم السلطة، لا الجغرافيا، وإلا فإن الفاشية، مثل فيروس قديم، ستظل تعرف كيف تهاجر من جسد الدولة الأم إلى أجساد الدول المشتقة منها، وتعيش طويلًا تحت أسماء مختلفة.

في الأمثال المتداولة في الامثال لشعبية الفلاحية:
ـ من تحت الدلف، إلى تحت المزراب.
غير أن الدلف هنا، قد لايكون ماء المطر، بل قد يقود إلى رسم الحدود الجديدة بالدماء.
كل الخوف، أن تسترسل البلاد بالدم تحت راية:
ـ الخلاص.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى