بعض من الرؤيا السوداوية
مرصد مينا
“المظلومية” و “البطولة”، هما العكازين اللذين تستند إليهما الحركات الدينية بمنوعاتها، وهما في اللحظة، ما يجمع “حماس” مع “اليمين الصهيوني”، ومن خندقين متضادين أحدهما يعلن مشروعه في إبادة الآخر.
ما يحدث في الميدان أن ليس لأي من الخصمين المتشابهين القوّة الكافية للإبادة إياها، فمجمل حصاد المعارك، المزيد من الضحايا والمزيد من تدمير المدن، وكلما ارتفعت محصلة الضحايا، ارتفع معها خطاب “المظلومية” بموازاة خطاب “الثأر”، ما سينّشط التيارات الراديكالية الدينية، ويسمح لكل من طرفي الصراع بمواجهة قوى السلام بـ “التكفير” والعزل، ومن ثم الاستئثار بمصير بلديهما، وقد تكون تجليات حال كهذا يتمثل في اغتيال قوى السلام في المنطقة، فـ “خالد الإسلامبولي” يغتال أنور السادات، فيما “إيجال عامير” يغتال إسحاق رابين، وتتدحرج المدحلة وصولاً لاستئثار اليمين الصهيوني بالسلطة الإسرائيلية، فيما الإسلاميون الرادكاليون يستولون على قطاع غزّة وعلى لبنان وصولاً لليمن.
حرب غزّة، هي واحدة من الحروب التي تعني أول ما تعني الحيلولة دون نهوض قوى السلام في منطقة تتوالد فيها الحروب، ليسيطر فيها “الغيب” وتندثر خيارات التنمية والمدينة، لحساب “المخيم” و “النزوح” و “المقابر”، في حروب محصلتها صفرية، ومن بعدها لتتمدد التيارات الدينية وتستقوي على الناس والحريات، ومن يستعيد تاريخ سلطة حماس على غزة بدءاً من فوزها بالانتخابات 2007 سيدرك باليقين، أن تلك الانتخابات كانت آخر انتخابات شهدها القطاع، لتتحول حماس إلى الحاكم المُطلَق، وما على فلسطينيي غزة سوى الامتثال لمشروعها وقد تحوّلت غزة إلى سجن كبير بحراس منتدبين من سلطة الله، وهو ما سنعثر عليه في الجانب المقابل، حيث الهزائم المدوّية لقوى السلام الإسرائيلية بمواجهة حاخامات الوعد الإلهي، وتأبيد “عسكرة” المجتمع الإسرائيلي بما لا يسمح للإسرائيلي سوى أن يكون، احتياطي سلاح، أو تحت السلاح، وهكذا يبتعد السلام عن المنطقة ليفوز دعاة ديمومة الاشتباك، وستأتي حرب غزة لتوطّد هذا الحال، فالنصر الإلهي تحقق حتى ولو جاء هذا النصر بتهجير نصف سكان غزة، ووضع من تبقّى تحت رحمة الموت وقد اتسع من المشفى إلى المدرسة وقد يطال الخيمة.
المعارك ستتوقف أسوة بكل الحروب السابقة عليها، وثمة وعدين لن يتحققا:
ـ وعد حماس بإزالة إسرائيل من الخريطة لن يتحقق، فمعطيات القوّة ستسمح لإسرائيل بأن تبقى لـ “تتمدد”.
ووعد بنيامين نتنياهو لن يتحقق بإزالة حماس، فحماس لابد ستخرج أقوى مما كانت، ذلك أنها “فكرة” و “عقيدة”، وثمة العديد من مرضعات “الفكرة” اوّلها المرضعة الإيرانية التي تخوض الحرب بأدواتها لا بجيشها أو بحرسها الثوري، وبالنتيجة، ستبقى المنطقة تحت رحمة التيارات المتطرفة، فيما قوى السلام تسجّل تراجعات قاتلة، وليس ثمة ما يدلل على مثل هذا التراجع، واقع حال السلطة الفلسطينية وقد باتت مجرد “محمود عباس” وهو يتسوّل الرحمة من الأمم التي لن تسارع إلى إسعافه وسلطته.
سيكون ما بعد غزة، اكثر خطورة مما قبلها، هذا ما بات واضحاً من اللوحة بالغة التعقيد، وسيكون الحال كذلك مع “تباشير” اتساع العنف الديني ومعه اتساع رقعتي:
ـ البطولة والمظلومية.
وعلى الجانبين لكل من اطراف الحرب حجّته في “المظلومية” وكذلك براهينه على “البطولة”، ما يعني أننا سنذهب بعيداً في الاحتكام إلى مشروعين متضادين / متكاملين، متجاورين / متناحرين، لا يكون الأول إلاّ بدلالة الثاني.
ما سيتبقى هو:
ـ قوى السلام في المنطقة التي لابد ستجلس على حافة النهر، لا لالتقاط الضحايا، بل للاغتسال من خيبات من المبكّر اجتيازها.
تلك هي الرؤيا السوداوية للحروب بالغة السواد.