عن “الدروز”.. بحثاً عن جمهورية أخرى
نبيل الملحم
لم يتحوّل إلى أحداث، وبقي مستوعَباً في حدود الحادث الذي لم يتصاعد إلى أن يترك ندبة جديدة في الوجه السوري الذي طالما حمل الجراح.
الحادث هو إقدام الحكومة السورية المؤقتة على إرسال قوات عسكرية إلى مدينة السويداء، واعتراض الأهالي على دخول هذه القوّات وقد استجابت القوات دون أيّ عنف أو إرغام فعادت من حيث أتت، وقد فعلت عين الصواب.
ـ ما وراء المشهد:
هذا هو المشهد، غير أن ثمة ما وراء المشهد، وما وراءه لابد ويتصل بالبعد المستقبلي لسوريا، وكيفية إدارتها، مع تفهّم حقيقة البلد، دون تجاوز دفن الحقائق في عباءة الرغبات:
ـ سوريا في خارطتها الراهنة، ليست سوى نتيجة لتوافقات دولية ممهورة بتوقيعين هما فرانسوا جورج بيكو ومارك مارك سايكس، وقد صاغا خريطة بلد.
ومن بعدهما، ومن بعد احتفالات الاستقلال بخروج فرنسا من البلاد، توالت الأحكام العسكرية ، بما سمح بسطوة الثكنة وغياب المجتمع، وحين تحضر الأولى تغيب الثانية التي تعني (إرادة الأمّة)، فالأمم لا ترسم بالقلم والممحاة، بل بإرادات ناسها وتبادلهم المنافع والمصير، بدءاً من “السوق” وصولاً للنشيد الوطني، والعسكر كانوا على الدوام المناجل التي تقطّع أوصال إرادات الناس، دون الإفساح في المجال لتكوين الامّة السورية، وقد حلّت القبضة محل الامّة، وبالنتيجة لتكون سوريا:
ـ مجاميع بشر غير راضين عن سوريتهم، ما جعل تعبيراتهم في السياسة، هي تعبيرات عابرة للأمّة:
ـ أحزاب قومية / أحزاب يسارية أممية / وتيارات إسلامية.
وكانت بمجموعها:
ـ إما تحت إبط النظام، وإما تحت سيفه.
ـ ما تصنعه القبضة تفكّكه القفازات:
الأمم المرسومة بالقلم والممحاة، طالما مزّقتها السكاكين، فكانت أكثر هشاشة من أن تتماسك، ولنا من التجارب البشرية ما يقول أن يوغسلافية وقد رسمت وحدتها القبضة الحديدة، فكّكتها القفازات الحريرية وكذا حال الاتحاد السوفييتي، وقد انهار ما بين ليلة وليلة، ليتحوّل مواطنو الأمس إلى أعداء اليوم، وهذه أوكرانيا/ روسيا تعطي المثال أيضاً.
بالنتيجة الأمم هي منتوج النهر الذي يحمل على ضفتيه أسباب الاجتماع، فإذا ما غاب النهر الواصل ما بين مجموعة ومجموعة بشرية، فإرادات الناس والأسواق تجمعهم، وكله لابد ويأتي تحت عنوان :
ـ المواطنية.
المواطنية التي تمنح الناس حقوقاً متساوية، لا الدين هو الحاسم فيها ولا المذهب ولا العقيدة، فإذا ما احتكمت الامّة في بنائها على الاديولوجيا، انتهت إلى ما انتهت اليه سورية عبر ما يزيد على خمسين سنة من سطوة حزب البعث المتكئ على عقيدة قومية، كان هو أول من فتك بها وأهانها تماماً كما أهان مواطنية من الناس.
ــ أسقطت سلطة آل الأسد، وكان إسقاطها عبر:
ـ كفاحات السوريين وتضحياتهم، وسيكون من الإجحاف التنكّر لحقيقة أن سُنّة البلاد كانوا أول ضحايا الاستبداد، وأكثر ممن دفعوا الأثمان، دون التنكّر للإجماع الوطني العام على رفض النظام وإن بوسائل مختلفة أسست لضمير جمعي ما أسقط النظام من ضمائر السوريين وهذا إنجاز لا استهانة به.
ـ الإجماع الدولي باستثناءات قليلة على إخراج النظام من تاريخ سوريا والعالم وتعبيراته قد تبدأ بالحصار على النظام وقد اكتوى النظام بالحصار واكتوى معه جمهور الفقراء من البلاد.
ـ “طوفان الأقصى” وكان من نتائجه قصقصة أذرع إيران بدءاً من حزب الله، وصولاً للإيراني صاحب الذراع وحامي النظام.
ـ التوافقات الروسية / التركية عبر تبادل المنافع والتقاسم الوظيفي، وقد كانت أولى نتائجه تخلي الروس عن حماية النظام.
ترك النظام بمفرده لمواجهة عسكرية، ما بين جيش مُفسِد فاسد، وفصائل مدربة عالية الكفاءة، لتحصد جبهة النصرة إنجازات ثورة السوريين بما حملت من مئات آلاف الضحايا والشهداء، وبما تسببت به من إضعاف للنظام حتى بات النظام قضمة سهلة على الفصائل، وثمة مثل أمريكي يقول :”لايؤكل الفيل بقضمة واحدة”، وهكذا كان ما تبقى من فيل نظام الأسد آخر قضمة، وكانت من نصيب جبهة النصرة والفصائل المتحالفة معها.
ـ وقد بات “قصر الشعب”:
دخل مقاتلو النصرة والفصائل قصر الشعب الذي لم يحمل يوماً من اسمه ، فهو قصر العائلة بما تحوي القصور من معدّات الزينة لسيدة القصر وخزائن ملابسها في مشهد احتفالي، تعبيراته في الفرح (الحقيقي) لبلاد كانت الأفراح تأتيها بـ “الهروات والأوامر”، ومثالها ما أسس له رفعت الأسد يوم كان شعاره “ارفع رأسك ياحمار”، فانتقلت أناشيد البلاد إلى “ارفع راسك فوق أنت سوري حر”، وبصوت المغني أحمد القسيم، الشاب السوري الذي يمثل فتوّة البلد، بعد أن كادت البلاد تذلها شيخوختها وهي على موعد مع القبر.
ما أن استولت النصرة على القصر، حتى أخذت بصياغة الدولة على شاكلتها، وكان من قبلها حافظ ووريثه قد اشتغلوا لنصف قرن على صياغة البلد على شاكلتهما التي لا تعني سوى “النرجسية العدوانية” وقد بلغت من العنف والانتهاكات ما لا يسمح لأية مخيلة جرمية أن تتصوره، وكان هذا كافياً لتداعيات سورية محورها:
ـ ما الذي تغير؟
كان السؤال، هو سؤال من لا يتقبّل فكرة إعادة إماتته، فالموت الأول الذي خيم بكلكله على السوريين لنصف قرن، لم يكن ليتقبل فكرة الموت الثاني الذي سيأتيه على يد من احتكر فكرة “محرره”، فالتحرير من الموت ليس بإعادة إماتة الميت وقد بُعث ما بعد سقوط الأسد من جديد.
أما عن دوافع السؤال، فكانت وليدة التفاصيل، دون نسيان أن الشيطان يستقوي بالتفاصيل ويسكنها ومن الدوافع:
ـ الموقف من قضية المرأة، وكانت تصريحات للسيدة عائشة الدبس قد أثارت ما يكفي من الرفض والتحفظات، وقد انتزعت من المرأة إرادتها في إدارة البلاد معتمدة على علوم البيولوجيا التي لم يختبرها أي من العلوم.
ـ إعلان وزارة اللون الواحد التي تعيد إحياء فكرة الحزب القائد، وهي الفكرة التي أجهزت على سوريا التي وصفها بونابرت بـ “قلب العالم”، كما أجهزت على العراق بلد النهرين.
ـ تشكيلات عسكرية منحت رتباً عسكرية لعناصر من الفصائل من بينهم مقاتلون من جنسيات متنوعة مع الاستبعاد الكامل للعساكر والضباط من المنشقين عن جيش النظام السابق، وهم من السوريين الأكثر تضحيات وتضرراً، فالأثمان التي دفعها هؤلاء كفيلة بأن يكونوا جزءاً من الجيش الذي يعني البلاد كل البلاد، دون نسيان مؤهلاتهم العسكرية، والتي يعني التفريط فيها التفريط بموارد البلاد.
وكل ما سبق هو تفاصيل تتدحرج إلى تفاصيل، ما جعل “النصرة” تحل محل العائلة الناهبة، مع تزيينات تطال رأسها كما لو ربطة العنق مكان اللثام.
التفاصيل إياها أنتجت القلق، ومن ثم القلق، ومن بعدهما الرفض، وهو الرفض الذي ما تزال تعبيراته مقتصرة على مواقع التواصل والمنصات، مع بيانات تنتجها (أقليات) قلقة على مصيرها، وهو قلق لن تمحوه التطمينات إذا لم تكن الدولة “دولة المواطنية”.
ـ قلق الأقليات:
قلق الأقليات إياه برز إلى الواجهة وتحوّل إلى مادة للاستثمار أقله من “الثورة المضادة”، في حين أن القلق لابد وطال الجميع وربما سيطال سكّان المدن من السنّة السوريين، كما الأرياف، فسوق “اتفضلي ياست”، الدمشقي لن يتقبّل “الدولة الدينية”، ومعامل إنتاج الصابون الحلبي كذلك، فالمدينة السورية هي السوق والمخزن، وكلاهما سيرفض الدولة الدينية لحساب “دولة المواطنية” التي تعني “الدولة المدنية” بما تتضمن من حركة وحرية أحزاب ونقابات وبرلمان، وبما تنعكس على إنتاج “الأمّة” وحركة التبادل والاقتصاد.
في هذه المساحات باتت سوريا، ومن بين السوريين الذين سينتابهم القلق، كان دروز السويداء، ولقلقهم حوامل قد يتكئون عليها، ومن بينها ذاكرتهم المتصلة بجبهة النصرة ما قبل (القصر)، وأبرز ما في الذاكرة استيلاء جبهة النصرة على منازل مهجّرين من دروز جبل السماق في ادلب وتسليمها لمهاجرين من التركمان، وهذا بالنسبة إليهم أمر يستدعي القلق، فمن اكتوى بالحليب لابد ويخاف اللبن، ومن يتعرض للتكفير لابد ويحسب حساباً للساطور.
مُجمَل الحالة الوليدة، باتت تستدعي السؤال:
ـ إلى أين ستأخذ جبهة النصرة البلاد؟
الدروز كسواهم يحسبون لهذا السؤال، وربما كان رفضهم لاستقبال الأرتال العسكرية التي كانت في طريقها إلى السويداء، هو استجابة لمجموع تلك الوقائع، دون نسيان أن ما يزيد على عام كامل، والدروز مستقلون عن السلطة المركزية في إدارة مناطقهم واختيار مرجعياتهم، وكانوا قد أقفلوا الطريق كل الطريق على تغوّل آل الأسد بدءاً من تحطيمهم لأوثان النظام، وصولاً للساحات التي لم تتوقف يوماً عن طرد كل ما يتصل بذاكرة النظام، وقد باتوا قادرين على إدارة مناطقهم بانتظار أن تستعيد الدولة إدارتها، وتتضح ملامح “القصر”، وهي ملامح ماتزال مضطربة وربما ستبقى كذلك بانتظار:
ـ التمكين.
ـ “التمكين”؟!
وهو مايخيف السوريين كل السوريين، وربما ستطال المخاوف سكّان المدن الرئيسية أكثر ما تطال الأرياف، فالسوق عدو الاديولوجيا، والبضاعة التي ينبغي أن تمرّ، ليس بوسعها أن تمرّ مرفقة بسؤال العقيدة، وثمة تجارب بالغة الدلالات أحاطت بالدولة الدينية وقد انتزعت من المدينة أحشاءها بدءاً من محاكم التفتيش الإسبانية، التي لم تستثن أحد من الإسبان من محارقها، وصولاً للتجربة الإيرانية وقد دفعت سائقو التاكسيات إلى الامتناع عن نقل رجال الدين، فيما تحوّل المقدّس على يد “حرّاس الدين” إلى “مدنس” بعد أن حاولوا سدّ منافذ الحداثة بالحدود الشرعية الفتّاكة التي تسللت إلى الإيرانيين من حيث لا يحتسبون، فكانت النتيجة ووفق قراءة للتونسي العفيف الخضر، أن المسجد الذي كان يصلى فيه في عهد الشاه، بين 3 و5 آلاف مصل لم يعد يصلي فيه إلا 15 في صلاة الصبح و25 في صلاة الظهر. ولأول مرة عرفت إيران ظاهرة الجوامع والمساجد الفارغة من المصلين.
ـ سنة 2000 كشف نائب رئيس بلدية طهران، حجة الإسلام علي زم، في تقرير لبلدية طهران السنوي أن 75% من الشعب و 86% من الطلبة تركوا الصلاة، رداً على هذا الترك الجماعي لـ”عماد الدين”.
ـ رصدت الجمهورية الإسلامية شهر أكتوبر من كل عام للحث على الصلاة.. في ختام ولايته، اعترف الرئيس خاتمي للسفير الألماني في بلاده بأن نسبة من يصومون رمضان هي 2% فقط وكانت في عهد الشاه أكثر من 80%.
ـ أجرت المستشرقة الفرنسية ، مارتين غوزلان، تحقيقاً عن الثورة الإسلامية نشرته الأسبوعية الفرنسية “ماريان” عنوانه الفرعي “30 عاماً من الثورة الإسلامية: 30% من الملحدين”! النسبة هائلة في مجتمع إسلامي شبه تقليدي خاصة، إذا علمنا أن 25% فقط من الأوربيين يقولون أنهم لا دين لهم و6% فقط يقولون أنهم “ملحدون مقتنعون”.
هذا حال إيران، فيما سيكتشف زائر الأندلس، أن الإسبان قد هجروا الكنيسة، وصولاً إلى أن تحوّل الرهبان والبطاركة إلى مادة ملهِمة لرسامي الكاريكاتير.
وهنا ظهر السؤال:
ألا يحق لرئيس “اتحاد الملحدين بفرنسا” أن يصرخ مبتهجاً: “مرحباً بالثورة الإسلامية حتى في فرنسا” حيث نسبة الملحدين أقل بكثير منها في الجمهورية الإسلامية.
ليس الأقليات (وإن كانوا الأكثر تخوّفاً) وحدهم من يرفض الدولة الدينية، فدمشق “الأموية” بنت الدولة.. دولة المخزن والجيش العتيد، ولم تكن يوماً لتعامل مواطنيها بـ “أقلية” و “أكثرية”، فالمتسوّق من الحميدية، حتى وهو بمفرده، يمثل لـ “الشامي” أكثرية، ولو لم يكن الأمر كذلك، لما هتفت دمشق لسلطان الأطرش الدرزي، ولما انهالت عليه الورود وهو في طريقه إلى حيّ الشاغور.
هذه سوريا وقد مسخها آل الأسد إلى مجموعتين:
ـ تحالف فاسدين.
وكل الشعب.. كلّه، بمن فيه سنّته أقليات.
الفاسدون هم الدولة، ومن تبقّى عبيدها.
عبيد يهتفون:
ـ عزيزتنا جهنم.
وها هي دمشق اليوم تتحرر من كليهما:
ـ من العبيد ومن الجلّادين.
وامام الحكومة الجديدة سؤال:
ـ أيّ باب ستطرقون للوصول إلى رأس السوري؟
رأس السوري وقد أسقط جمهورية العائلة الطغمة، بحثاً عن جمهورية أخرى.