fbpx

بناء السلم المجتمعي

شكّل التنوّع المجتمعي جزءاً من الواقع المعيش في مستوى العالم، ولا تخلو دولة من وجود أقليّات أو أقليّة واحدة “قومية أو إثنية أو دينية أو لغوية…” سواء كانت من مواطنيها أم من المهاجرين، من دون أن يشكّل وجودهم أيّ إشكالية بالنسبة إلى الدول الحداثية المتمدّنة التي خرجت من قوقعة الاختلاف أساساً للانتماء إلى دولة المواطنة وتساوي الجميع في الحقوق والواجبات القانونية بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية ومصادفة الولادة، هذه المصادفة التي تحوّلت في بلدان المشرق العربي إلى جزء من بناء الإنسان وانتمائه وآلية تعاطيه مع الآخر وهي التي تحدّد وجوده وانتماءه في دول لم تؤهّلها مسيرتها الطويلة لبناء قواعد سليمة للعيش المشترك بضمانة القانون والحقوق والواجبات المتساوية.

  • التنوع في بلاد الشام

شكَّلت منطقة بلاد الشام بموقعها الجيوسياسي منطقة استقطاب وعبور لكثير من الحضارات وقبلة لشعوب متنوّعة هاجرت إليها تاريخياً لتكون جزءاً من نسيجها المجتمعي المتنوّع المتآلف أحياناً والمتفجّر أحياناً أخرى نتيجة الصراعات الداخلية والخارجية بين القوى الناشئة في هذه النطاقات الجيوسياسية التي يقودها التنافس ورغبة السيطرة على موقع بهذه الأهمية. وساهم نظام الطوائف والمِلل -الذي تبنّته السلطنة العثمانية واتخاذها المرجعيّات الدينية مرجعيّة دينية- سياسية- في تحويل المجتمع إلى مجموعات مشرذمة. وعزّز ذلك  التدخّل المتواصل للقوى الاستعمارية، ودخول حملات التبشير المسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية التي لم تساهم في نهضة تعليمية فحسب إنما في اتساع الهوّة بين مكوّنات المجتمع، وفي ترسيخ أولوية الانتماء الديني والمذهبي.

  • الكيان السوري المستهدف استعمارياً

تفاقمت هذه المشكلة نتيجة فشل الحكومات المستحدثة في بناء دول مدنية، تُبنى على قاعدة المؤسّسات والقانون التي ساهمت في تشظّي المجتمع وبروز الانتماءات والعصبيّات الطائفية والمذهبية والقومية التي تحول دون تحرّر المواطن الفرد، وظهوره قيمةً عليا وشخصيةً قانونية وسياسية وصاحب عقد اجتماعي مع الدولة. فالكيان السوري الذي طالما رفضه السوريون وهجوه بوصفه ناتجاً استعمارياً “سايكس/بيكو”، أنتج شخصية سورية تضيع بانتمائها بين الأبعاد فوق الوطنية من قومية ودينية ترفض التقوقع داخل حدود مصطنعة، أو دون الوطنية ينتجها القاع المجتمعي من عشائرية ومذهبية تقاسمت الهوية والوجود السوري، وجرت تغذيتها في متغيرات الاستبداد الذي عمل على وضع هذه المكوّنات بعضها في مواجهة بعض، تحسّباً من اصطفافها في مواجهة الفساد والاستبداد القائم، فاتساع الشروخ بين المكوّنات المجتمعية المختلفة في المجتمع السوري لا يعود إلى تنوُّع هذه المكونات وإنما إلى وجود إدارة سيّئة للتنوُّع كانت تضغط بثقلها الأمني عليه لتحافظ على صورة التعايش غير آبهة بما ترسّبه من احتقانات وأحقاد.

  • تعامل الأنظمة المختلفة مع المكونات السورية

ما عرفه السوريون خلال عقود طويلة من الخطابات عن الوطن والوطنية، لم تكن سوى شعارات رُبِطت حصرياً بالنّظام الحاكم الذي لم يتعامل مع السوريين بوصفهم شعباً ومواطنين أحرار، إنما مكوِّنات منغلقة والعلاقات في ما بينها مبنيّة على الحذر وعلى عقدة الخوف من التعبير عن حالة التهميش والظلم، من دون أن ترتبط بعلاقات قانونية وسياسية بالدولة القائمة التي مُسخ فيها مفهوم الوطن متحوّلاً إلى كيان سياسي، هو ثمرة تزاوج بين الجغرافيا التي احتضنت طوائف وجماعات وقوميات، والاستبداد الشمولي الذي أعطاه مواصفاته ومحدودية الانتماء إليه. وما ألِفه السوريون من خِطب التعايش المجتمعي والسلم الأهلي، لم يكن سوى تلك القشور الواهية التي لم ترقَ إلى مرحلة التأصيل في مستوى الأفراد والمجتمع، في ظلّ غياب التأسيس الصحيح لثقافة احترام الآخر وحقّه بالوجود، خصوصاً أنها لا تتعدى عند بعضهم أكثر من تبادل التهاني في المناسبات الدينية، وتجاور الكنيسة مع المسجد مع الحسينية. فهذا المشهد البرّاق أُخفيت تحت وهجه كارثة من براكين خامدة سرعان ما ثارت نيرانها لتحرق رداء التعايش الذي فرضته السلطة في أيام السلم وحاولت تسويقه في أيام الحرب، حيث عادت المفهومات الذاتية للانتماء -دينياً كان أو إثنياً- وأضيفَ إليها الانتماء السياسي “موال أو معارض”.

  • السلم الأهلي والتنوع سورياً

الحديث عن السلم الأهلي صار ممجوجاً، فمع تنوّع الأطراف المنخرطة في النزاع المسلّح وتعددها -داخلياً وخارجياً- التي تستهدف المدنيين، عزّزت ظاهرة الإفلات من العقاب، وباتت المطالبة بتحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب، خطوة باتّجاه تحقيق سلم أهلي فعلي، أقلّ شأناً من مطالب السلام بمعنى نهاية الحرب بمظهرها العسكري. فالتفاوض السلمي اقتصر على تسويات الحدّ الأدنى بين المعارضة والنظام، والناتجة من التعامل بواقعية مع تعقيدات الصراع السوري وتداخلاته، هو أساس لمفاوضات الحلول. والمصالحات الصامتة بعد معارك منهكة وحصار وتجويع تؤدي إلى قبول الطرف المحـاصر في حـالة الضعـف بمـا يقـدّم له من شروط اقتصرت على فرض تعايش الحدّ الأدنى، من دون وضع حلّ نهائي ودائم للخلاف المجتمعي القائم، هو التأسيس الذي تعتمده السلطة لإيقاف مدّ الحرب أو تسكينها. نعمة التنوّع التي لم تبنَ على أسس التعايش وتثبيت ركائز السلم الأهلي السليم خلال العقود الماضية، تحوّلت حالياً إلى عقدة مكوّنات وتجسّدت على أرض الواقع مجازر جماعية وتهجيراً قسرياً وهيمنة قيم الثأر والتعصّب وشيطنة الخصوم وغيرها، لتجعل من العودة إلى طرح التعايش السلمي كما كان سائداً محض خطاب طويل لملء الفراغ لا يجنّب البلاد نقمة الاحتراب.

  • كيفية تحقق التعايش السلمي

التأسيس الصحيح لفكرة التعايش يقوم بنيانه الحقيقي على إقرار الجميع بالمحافظة على سلام دائم، ورفض كافة أشكال الاقتتال ومسوغاته. ويتطلّب العمل على خلق وعي جديد بالتنوّع والاختلاف الثقافي والفكري، ويشترط احترام تلك التنوّعات، وهذا لا يتحقق إلا عبر سيادة القانون الذي يضمن حرية الإنسان وحقوقه، فهو الطريق الصحيح لحماية المواطنين من أي إجراء قهري قد تتخّذه السلطات والزعامات المختلفة “الدينية، السياسية، الاجتماعية” التي تعزّز أنماط الانغلاق الفكري، وتجعل التصادم والتقاتل حتمياً بسبب حالة التباين والاختلاف، فثمّة شيوعي وإسلامي وقومي ووطني وطائفي وإثني، وكل الموالين لمدارسهم يكرّسون خطابهم الذي يعتمد الحصانة المطلقة من الأخطاء، ويساهمون في عملية الصلب لهذا السلم، عبر تحويلهم مفهوم الحقّ بالاختلاف إلى أيديولوجية خلاف، يجري الترويج لها عبر استعراض حالات الإذلال والحرمان والعزل والتهميش أو بطريقة عكسية، من خلال استعراض حالة القدرة والتفوّق والسيادة. وفي الحالتين، ستكون النتيجة الطبيعية تفتيت حالة التعايش داخل بنية المجتمع، وزرع الأحقاد التي سيشكّل تراكمها كابوساً يومياً، يشحذ سكاكينه المسنونة.

  • ختاماً

خطاب التعايش والسلم الأهلي، بقدر ما يشكّل ضرورة ومدخلاً لتجاوز عدد من الصدامات، ويعدّ أحد العوامل الحاسمة في النمو الديمقراطي، لا يحثّ على الاندماج الوطني، ولا يؤسس لدول حديثة، ولا للتقدم الاجتماعي والثقافي والحقوقي، وليس حلاًّ سحرياً للمشكلات المتأصّلة من دون إيجاد البنى الكفيلة بنجاح هذا السلم والتعايش المجتمعي. والاستمرار برفعه شعاراً تتقاذفه أفواه المتخاصمين في ساعات الحرب، وتستريح تحت ظلّه في ساعات السلم، هو إغلاق للدائرة على دورات عنف لاحقة يتجدّد فيها الاقتتال. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى