نصف مليون تونسي يعيشون بدولار في اليوم
منذ ثورة يناير 2011، تسابقت كل الحكومات المتعاقبة وآخرها حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها يوسف الشاهد على تقديم إنجازاتها وتجنيد أجهزتها للرد على كل من يحذّر أو يطلق ناقوس خطر يشعر الناس بأن الوضع صعب وبأن المرحلة القادمة يجب أن تكون اقتصادية بحتة تخرج من دوائر الصراع السياسي المحموم.
وفي الوقت الذي تواصل فيه الطبقة السياسية راهنا تلخيص المعركة في من سيحكم في ضوء مشاورات حكومة إلياس الفخفاخ، أثار تقرير صادر عن البنك الدولي نوعا من الرجة في صفوف التونسيين بعدما صنّف البلد على أنه يعدّ إحدى أفقر دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إلى أن تتشكل الحكومة الجديدة، بات من الضروري أن يعيد تقرير البنك الدولي ترتيب الأولويات لدى ساسة البلاد، لأن التونسي اليوم بات في غنى كلي عمّن يعده بأن تمطر السماء ذهبا
ويقول التقرير الصادر بعنوان “تسريع الحد من الفقر في أفريقيا لعام 2019″، إن “تونس تصنّف من أفقر البلدان في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا”. ويشير إلى أن نسبة السكّان في تونس الذين يعيشون تحت خط الفقر تبلغ 15.2 في المئة من إجمالي عدد السكان، وأن نصف مليون تونسي يعيشون بما لا يزيد عن 4 دينارات تونسية فقط في اليوم (دولار وربع). ويعرّف كل إنسان فقير بأنه من يعيش يوميا بأقل من 20.3 دولار.
تهميش الداخل
الأكثر أهمية في طيّات التقرير أن الجهات والمناطق المهمشة التي اندلعت فيها شرارة انتفاضة اجتماعية ضد النظام السابق الذي قاده زين العابدين بن علي تجد اليوم نفسها في وضع أصعب بكثير.
يتوسع التقرير في كشف حجم الفوارق بين الجهات، بتأكيده أن سكان مناطق وسط غرب البلاد هم الأكثر فقرا، وأن نسبة الفقر بكل جهة من هذه المناطق تتجاوز 45 في المئة، مؤكدا أن هذه النسبة ترتفع إلى 53 في المئة خصوصا بمحافظتي القصرين وسيدي بوزيد.
ويتزامن صدور مثل هذه الأرقام المفزعة مع إطالة الطبقة السياسية الفائزة في الانتخابات التشريعية منذ شهر أكتوبر 2019 حلقات مسلسل تشكيل حكومة مهمتها تلبية تطلعات التونسيين وخاصة في ما يتعلّق بالأولويات التي يجب الانكباب عليها قبل كل شيء.
كما يثير تقرير البنك الدولي حالة من البؤس لدى التونسيين، خاصة أنه يأتي أياما قليلة فقط بعد صدور تقرير آخر أكد أن تونس تحتل المرتبة 124 عالميا في مؤشر السعادة من مجموع 156 بلدا.
المهم في هذا التقرير أيضا أنه يعيد فتح ملفات ترتبط مباشرة بما قدمّته الطبقة السياسية طيلة قرابة عقد، خاصة في ما يتعلق بالبرامج والمخططات التنموية، فبعد كل ما كشفه البنك الدولي، ما الجديد الذي ستقدمه رؤية حكومة الفخفاخ التي قال إنه سيطرحها في وثيقة التعاقد الحكومي؟ وثيقة ما زالت محل جدل واسع بين الأحزاب المدعوة للتوقيع عليها ومن ثمة المرور إلى التشاور حول الحقائب الوزارية.
كما تضع هذه المؤشرات الجديدة رئيس البلاد قيس سعيّد أمام امتحان صعب كونه رفّع بدوره من سقف الوعود خلال حملته الانتخابية الرئاسية قبل الوصول رسميا إلى قصر قرطاج. لقد توخى الرئيس التونسي خلال حملته خطابا يلامس طموحات الناس الذين سئموا وعود الأحزاب التقليدية، فجاب تونس شمالا جنوبا، شرقا وغربا رافعا شعار “الشعب يريد”، مبينا تفهمه لحالة البؤس التي وصل إليها التونسيون بعد اعترافه بأن كل من حكم البلاد بعد الثورة لم يلبّ أحد أهم أهداف الثورة وهو العيش الكريم.
بعد سقوط حكومة الحبيب الجملي مرشح حركة النهضة في البرلمان وعدم نيلها ثقة نواب الشعب، أجمع جل الفاعلين السياسيين، إن لم يكن كلهم، على أن ما يسمى بـ”حكومة الرئيس” يجب أن تُمنح قيادتها لرجل اقتصاد يفهم الوضع ويقدّم للناس التشخيصات الحقيقية كما هي دون تزويق وبلا زيادة ولا نقصان.
حصرت المنافسة قبل تكليف الفخفاخ بمهمة تشكيل الحكومة بين أربعة أسماء من المتخصصين في الاقتصاد وهم إلياس الفخفاخ وحكيم بن حمودة وفاضل عبدالكافي ومنجي مرزوق، ليختار الرئيس في النهاية الفخفاخ الذي قُدّم في البداية على أن توجهاته ستكون بعيدة عن المحاصصة السياسية ومنطق تقاسم الغنيمة بقدر ما ستكون مركزة على الوضع الاقتصادي بصفته من أهل الاختصاص.
لكن مع تقدم مفاوضات تشكيل الحكومة، ما الذي حصل؟ لقد كشف الفخفاخ منذ أول مؤتمر صحافي أن حكومته ستكون سياسية، بل وحدّد لنفسه الحزام السياسي الذي يجب أن يدعمه، فاختار من سيكون معه في الحكم ومن سيكون في المعارضة في وضوء ما أسماه القياس على نتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية وهو ما أفضى إلى حد الآن إلى إقصاء حزب قلب تونس الذي يترأسه المرشح الرئاسي السابق نبيل القروي.
أزمة سياسية
مع اشتداد الانسداد السياسي في البلاد وانقسام مواقف الأحزاب المعنية بالمشاركة في حكومة الفخفاخ، أخذ كل حزب يدافع عن وجوده بالدفع إلى تحصيل أكثر ما يمكن من غنائم الحكومة دون أن يتطرق الفاعلون في المشهد إلى صعوبة الوضع الاقتصادي، وماذا ينبغي على من سيحكم -إن كان الفخفاخ أو غيره- أن يقدم لحل أزمة الاقتصاد.
ومن المفارقات الكبرى في مفاوضات تشكيل حكومة الفخفاخ أن النقاش حول وثيقة التعاقد الحكومي التي تتضمن منطقيا كل برامج الحكومة القادمة لإنقاذ الاقتصاد، تم تهميشها عبر حصرها في مربع يجعلها مجرّد ديكور يتم به تزويق المشهد دون تقديم تفاصيل عن تصورات الأحزاب في المستقبل القريب لإخراج تونس من دوامة الإفلاس والفقر الذي يحاصر البلاد.
التقرير يعيد فتح ملفات ترتبط مباشرة بما قدمّته الطبقة السياسية طيلة قرابة عقد، خاصة في ما يتعلق بالبرامج والمخططات التنموية
ويتساءل خبراء الاقتصاد عن جدوى تمطيط السياسيين لحالة الفراغ رغم إدراكهم صعوبة الوضع وكارثيته المباشرة على حياة التونسيين، طارحين آفاقا بديلة حمّالة لعدة استفهامات من قبيل “تمر حكومة الفخفاخ وماذا بعد إن لم تكن حاملة لهموم الشعب وملامسة لواقعه اليومي؟”.
وما يزيد في توريط كل الطبقة السياسية أن جلّ مكوناتها خلطت المفاهيم خلال الانتخابات الرئاسية رغم إدراكها أن الرئاسة محدودة الصلاحيات دستوريا مقارنة برئاسة الحكومة، ليقدم آنذاك كل المرشحين بلا استثناء، وفي مقدمتهم قيس سعيّد، وعودا وضعت مستوى معيشة المواطن في خانة الأمن القومي على اعتبار أن هذه الصلاحية الأخيرة هي من صميم مهام الرئيس دستوريا.
إلى أن تتشكل الحكومة الجديدة، بات من الضروري أن يعيد تقرير البنك الدولي ترتيب الأولويات لدى ساسة البلاد، لأن التونسي اليوم بات في غنى كلي عمّن يعده بأن تمطر السماء ذهبا مثلا، فنصف مليون تونسي يعيشون بدولار واحد في اليوم هم في أمسّ الحاجة إلى أفعال تُترجم على أرض الواقع، لا في حاجة إلى عراك السياسيين ومسكّنات تزيد في هشاشة وضعهم ووضع البلاد مستقبلا.