وقد انتصرت لغة النظام
مرصد مينا
ربما فاز الأسد الراحل بزرع الشك في كل ما يحيط علاقة السوري بالسوري، وصولاً لعلاقة الزوج بزوجته او الابن بأبيه، شك سمح بالاعتقاد أن “المُخبر” يسكن الفراش، ويرافق المواطن إلى الاستحمام وإلى المنام، وهذا ميراث استثمره الأسد الابن، وزاد في حصيلته معارضات اشتغلت لحساب النظام وقد خرجت من معطفه، بما جعل أيّ صوت معارض في سوريا اليوم، “مشكوك فيه” حتى من رافضي النظام وضحاياه، وهو أمر لابد ويعطّل أيّة خطوة نحو هزّ النظام الواقف على حافة الهاوية.
يحدث هذا اليوم ليرافق تحرّكات شعبية مدنية كل الظروف تستدعيها، فنشوء حركات مدنية معارضة، مطلبية في جوهرها، وسياسية في مداها البعيد، ليس أمراً تستدعيه المخيلات الشعبية أو الرغبات، ذلك ان النظام الحاكم في البلاد لم يترك متنفساً للناس، ولا وعداً سوى بالمزيد من الجحيم والانهيار، جحيم اللقمة والدواء، وقد أضيفا إلى جحيم المعتقلات والإرهاب واجتثاث ما تبقى من الحريات.. الحريات التي تعني السؤال:
ـ أين خبزنا؟
الطبيعي، أن تولد حركات اعتراضية، بل والطبيعي أن تراكم هذه الحركات والتيارات اختباراً جديداً للعمل السياسي، مستفيدة من خيبات الماضي، وبؤس رهاناته، وهي خيبات لابد مرتبطة بمعارضات ارتهنت إلى السلاح والعنف واستثمرت في عتبات السفارات، لتتحول إلى استثمار للعتبات إياها.. تيارات وحركات مدنية من “الداخل السوري” وهو الداخل الذي يكتوي بكل ما للجحيم من معاني.. الجحيم الذي طال الجميع، بمن في الجميع تلك البيئات التي احتسبت على النظام، وإذا كنا أكثر صراحة وتحديداً، تلك البيئات التي دعيت بـ “العلوية” ونعني هنا طائفة تمتد على الساحل السوري وبعض من مناطق حماه، مضافاً لعشوائيات المدن الكبرى، وهي الطائفة التي اكتوت مرتين:
ـ مرة بالنظام، وقد أفرغها النظام من شبابها الذين باتوا أمام واحد من خيارين، فإما حملة سلاح النظام، وإما احتياطي لسلاحه، وفي الحالين باتت الطائفة الأشد التصاقاً بمحرقة النظام، ولفتة إحصائية كفيلة بالقول أنها طائفة خسرت شبابها، لحساب عصابة نهمة قاسمت طائفتها الغرم ولم تشاركها بالمغانم.
ـ ومرة بخطاب معارضات، ليس مثالها العرعور الأكثر تورطاً في اللغة الفاشية التي لن تنصر ثورة بقدر ما تشكل رديفاً للنظام.
تلك مرحلة امتدت في الحياة السياسية السورية، وهي المرحلة التي فاز فيها عنف النظام على أحلام الناس بالتغيير، غير أن اليوم، ليس هو الأمس، فعلى “حساب البيدر”، واجه أنصار النظام حصيلة الحصاد، لتكون الحصيلة جثث أبنائهم.. جثث فقط، مع المزيد من الحرمان والمجاعة وانسداد أيّ رهان على النظام، ولغة النظام، وساسة النظام، الأمر الذي يستدعي “الثورة الثانية”، وهي الثورة التي لابد وتجمع كلّ السوريين، مادام “الكل” ضحية لنظام لم تميّز مقصلته ما بين عنق وعنق، ودم ودم، فكانت التحوّل الطبيعي، الضروري والممكن، وكان خطابها منطلقاً من “وقائع حياة اليوم”، وهي وقائع لابد وتحرّك القبور كما تحرّك الأحياء.
الطامّة الكبرى، هي في انتصار النظام ثانية عبر انتصار تلك “الفوبيا” التي زرعها عبر نصف قرن من “الشك” و “الريبة”، بما يجعل من أيّ حراك شعبي حراكاً مشكوك به مسبقاً ومدان مسبقاً، وبما يجعل التغيير أبعد، وحراك الناس أكثر إعاقة، وهو مالم تستوعبه معارضات الخارج التي لم تدفع من الأثمان ما يساوي ما قبضته من مكاسب، دون أن تقدّم لثورة الناس ما قدمته لآلة النظام.
اليوم سوريا لابد ودخلت مرحلة جديدة، وبلغة جديدة، وبألويات هي أولويات الحياة التي تتخطى الخطاب “الانشائي” أو “الانطباعي” أو ذاك الخطاب المنطلق من “الكيد السياسي”.. اليوم الناس في فم المجاعة وتحت أنياب الموت من الحرمان وبكل أشكال الحرمان.. معطيات جديدة، لابد وتستدعي لغة جديدة، لغة تتجاوز لغة الأمس، أقله وقد أثبتت الحياة خيبة لغة الأمس.
ناس الداخل تخطو لغة الأمس نحو لغة جديدة بمواجهة النظام.
وحدها معارضات الأمس مازالت على لغة الأمس، و:
ـ التشكيك والريبة، تلك لغة الأمس وقد زرعها النظام حتى باتت لغة معارضاته.
أي انتصار لنظام يعلو على احتضان لغة النظام؟
ذلك هو السؤال.