السردية السورية

غسان المفلح
كانت الجثث تأتينا في برّادات اللحوم، هكذا قال حفار القبور السوري، لا روائيًا ولا شاعريًّا، بل شاهدًا على عصرٍ لا يُصدق، على وطنٍ يُشوى أبناؤه في أفران المخابرات، ثم يُنقلون ملفوفين بأكياس النايلون، كأنّهم طرودٌ بريدية بلا عنوان.
الجثث تُنقل كما تنقل اللحوم، تُخزّن كما تُخزّن البضائع، تُوزّع كما تُوزّع الحصص التموينية. هذه ليست استعارة. هذا توصيف واقعيّ لشهادة موثّقة بثّتها قناة تلفزيون سوريا.
إلى من كانوا شبّيحة، ومؤيّدين، وصامتين باسم السيادة والممانعة والوحدة الوطنية:
هلّا صمتم شهرين؟
هلّا بلعتم ألسنتكم الملوّثة بالدم؟
هلّا تركتم لهذا البلد أن ينوح على من ذُبِحوا فيه بوحشية.
هذا ليس وقت الرأي الآخر.
هذا وقت الصمت، إن كان الصمت ما تبقّى من فضيلة.
دعونا نحزن دون أن نسمع تبريركم للذبح.
دعونا نرثي دون أن تصفعنا تحليلاتكم الباردة.
دعونا ندفن موتانا دون أن تحضروا بالكذب إلى الجنازة.
هذا ما كتبته الصديقة زويا بستان عما قاله حفار القبور.
هذا جزء صغير من سرديتنا نحن السوريين مع الأسدية، جزء يتناول سيرة موتنا وموتانا. سيرة موتنا طيلة الحقبة الاسدية السوداء منذ ما يقارب الستين عاما.
هذه السردية التي تمثل الحقيقة من بقايا عظام أهلنا التي وجدت في المقابر الجماعية. من صورهم بيد اهاليهم وهم يبحثوا عنهم. هذه السردية تعاد الآن بعد هروب الواطي ابن الواطي من سورية، حيث تركها دولة رماد.
أمام هذه الفظاعة وبعد سقوطه، وقيام سلطة ما فوق وطنية. مشكور كل من” حرر” لكن يجب أن يعرف أنه لا يقرر لوحده.
منذ فترة وانا اتجنب الكتابة في مواضيع تحتاج لرأي نهائي، ومتابعة ومحاولة الاطلاع أكثر، تفاصيل مواضيع تهمني وتهم سورية، لأنني رأيت من المفيد جداً أن انتظر فترة من زمن كي ينتهي شعبنا من أفراحه بسقوط الأبد والهولوكوست الأسدي. ومن جهة أخرى كي تتضح بالنسبة لي بعض خيارات السلطة والمجتمع الدولي تجاه البلد.
– الفظاعة تكمن فيما نعيشه الآن، وما عشناه بالعهد الأسدي، هو محاولات حثيثة لتغيير السردية السورية الحقيقية. لم تكن ولن تعني لي السلطة الانتقالية، ولم ادخل في معادلة موالي ومعارض، لأن هذا الموضوع في الحقيقة يخص الجهابذة من فلول المعارضة لديهم حتميات عاشوا عليها. كان همي منصباً على ما طرحته من سؤال حول السلم الأهلي. لم ادخل في هذه المعادلة لسببين:
الأول: طموحاً ذاتياً لسوريتي المستقبلية، هذه السلطة لا تتقاطع معه، ولن تتقاطع حتى أرى بلدا ديمقراطيا حقيقيا. عندما يكون بلداً ديمقراطيا تكون هذه المعادلة التافهة أنت مع السلطة او ضدها لا قيمة لها.
لكن بالمقابل اغلب الأطراف التي وقفت ضد هذه السلطة أرادت خراب البلد وليس كما تدعي. الأسوأ فيهم هو من حاول ويحاول منذ سقوط الأسد تغيير السردية السورية في الهولوكوست الأسدي.
الأسديون كانوا يقتلون من جهات ودوافع متعددة: أحيانا طائفي وأحيانا سياسي وأحيانا خوف من خسارة السلطة.
هذه المحاولة صعدت من خطاب أن النظام الأسدي لم يكن طائفياً، هنا أس المسألة في محاولة تغيير السردية السورية. تعميم الجريمة الأسدية التي في سلطتها العميقة هي جريمة طائفية. بدل أن تقوم هذه المحاولة على إعادة قراءة الواقع استمرت في تزييف الوقائع. تزييف الفظاعة.
درجت نكتة منذ منتصف السبعينيات في سورية: خذوا كل المحمدات واعطونا علي واحد. تعبيرا عن تكثيف لموقف مجتمعي أن السلطة علوية.
علماً أن السلطة طائفية وليست علوية، وكنت على مدار سنوات طويلة وانا أكتب حول هذا الموضوع. رافضاً تسمية السلطة انها سلطة علوية، لكنها سلطة طائفية. لأن الطائفية استثمار مادي ورمزي، وعائلة الأسد منذ التأسيس الأسدي كانت رب عمل للطائفة العلوية. لا أحد يصير طائفي منذ الولادة.
لنلاحظ كملاحظة بسيطة، لم تحتج كل المكونات السورية على نتائج سقوط الأسد من زاوية أن أفرادها بقيوا بدون عمل إلا الطائفة العلوية.
هذه الظواهر كان يجب دراستها. كنت اشرت إليها عدة مرات. لكن ابواق المجازر لا يريدوا قراءة الواقع. مثال الخلاف بين السويداء والسلطة في دمشق على الصلاحيات، وكذلك عند الكرد على الحقوق. لكن كان عند فعاليات الطائفة على العفو العام وإعادة من كان يشغلهم الأسد إلى مراكزهم وامتيازاتهم.
لهذا المحاولة في تغيير السردية تلاقت مع مطالب فعاليات الطائفة العلوية منذ الأسبوع الأول لسقوط الأسد والتي تمحورت حول اصدار عفو عام عن المجرمين من الطائفة.
لم تطالب طائفة أخرى في سورية بهذا المطلب.
السبب الثاني: لا أرى طرفا سياسيا في سورية سلطة وغيرها، يجعلني اتواطأ مع معه. الطرف السياسي عندما تنخرط معه تنظيميا والسلطة ايضا أي سلطة غير ديمقراطية فيها حالة من التواطؤ لم اعد قادرا عليه بالمعنى الشخصي. ربما من باب التاريخ كنت ولا أزال أتمنى ان أكون جزء من فريق الحوار العربي الكردي مثلا، او جزء من الحوار الذي يؤسس لمصالحة وطنية حقيقية في سورية. لكن ليس تحت أي سلطة.
المصالحة تعني مكاشفة. لا يريدوا المكاشفة.
رغم ذلك لا تزال السلطة الآن كسلطة وليس كبعض الدوائر حولها، أقل طائفية من كل من يدعي معارضتها، ولا تستثمر في خطاب طائفي أو تحاول تغيير السردية السورية. بالعكس هي مغرقة في تلبية مطالب فعاليات الطائفة العلوية رغم الجرائم التي حدثت بحق أهلنا العلويين في الساحل والتي لا أريد الدخول في تفاصيلها المرعبة. لدرجة أنها تضحي بجزء كبير من العدالة الانتقالية من أجل ذلك.
ما حدث ويحدث في سورية منذ 2024/12/8 كان غير متوقع بالنسبة لكل السوريين، عدا القادة الموجودين في السلطة اليوم. فتغيرت كل المعادلات على الأرض، تغير الناس العاديين. تغيرت أشكال الصراع الداخلية بين ” القوى السياسية” تغيرت الاصطفافات، نشأت مصالح جديدة ونخب جديدة تعبر عنها. تحولت سورية كلها إلى ورشة بداية لمحاولة الفهم.
لكن الملفت لم نكن جميعا على قدر المسؤولية في قراءة ما يمكننا تسميته التركة الأسدية وتفاصيلها، بل ركزنا جل همنا منذ اللحظة الأولى على السلطة الجديدة موالاة ومعارضة. في خندقة أخذت بعداً إثنياً أحياناً وطائفياً أحياناً أخرى. وكأن السلطة الجديدة هي مسؤولة عن انبثاق هذه الاصطفافات. كأنها اصطفافات نزلت بالبراشوت على سورية!! هل فعلا نزلت بالبراشوت؟
عندما نقرأ التركة الأسدية ونضع أنفسنا مكان السلطة بما هي عليه لا بما نتخيله عنها، ماذا نفعل ازاء هذه التركة وازاء البلد؟
– هنالك نخب وقوى ومصالح رفضت هذه النقلة، مثلاً مسموح لهذه النخب أن تعقد اجتماعات معارضة للسلطة يلتقي فيها من كان مواليا للأسد مع من كان معارضا له من أجل صياغة معارضة جديدة للسلطة القائمة.
لكن ليس مسموحا بالنسبة لهم أن يكون هنالك موالين للسلطة الجديدة! وأيضاً هنالك موالين للسلطة الجديدة كانوا مع الأسد، والسلطة الجديدة قربت وتقرب بعض منهم. كيف نقرأ هذه الاصطفافات؟
نتمنى أن نعيد قراءة لوحتنا السورية كل لحظة لأننا نعيش فترة انتقالية لا نحسد عليها كسوريين، ربما نصل لخلق كتلة تاريخية تناسب هذه المرحلة للمضي في سورية ديمقراطية لكل أبنائها هذا هو الرهان سيبقى.