أخر الأخبار

السويداء والحكم الذاتي: حلم يصطدم بالعجز.. تحديات تفوق الإمكانيات

محمد القضماني

في قلب الجنوب السوري، تقف محافظة السويداء عند مفترق طرق حاسم، بين طموحات السكان في حكم أكثر عدالة وتمثيلاً، وبين واقع سياسي واقتصادي معقد، لا يترك متسعاً كبيراً للأحلام.

فمع تصاعد الحديث عن الحكم الذاتي واللامركزية، يبرز سؤال جوهري: هل تملك السويداء المقومات الفعلية للخروج من عباءة المركزية السورية؟ أم أن الطريق محفوف بتحديات تتجاوز القدرة المحلية وتغوص في عمق التوازنات الإقليمية والدولية؟ في هذا المقال، نغوص في تفاصيل الواقع السكاني، والبنية التحتية، والقدرات الاقتصادية، لنسبر مدى واقعية مشروع الحكم الذاتي في محافظة لا تزال تبحث عن صوتها وسط صخب الفوضى السورية.

السكان

    يُقدّر عدد سكان محافظة السويداء الأصليين بنحو 540,409 نسمة (تقدير الأمم المتحدة فبراير 2022)، وتتركز الغالبية الساحقة منهم في الأجزاء الغربية الجبلية من المحافظة.

    تشكل الطائفة الدرزية حوالي 90% من السكان، مع أقليات مسيحية وسنية صغيرة. بالمقارنة مع المحافظات السورية الأخرى، يعتبر عدد سكان السويداء ضئيلاً نسبياً (حوالي 2.5% من إجمالي سكان سوريا)، ما يؤثر على حجم السوق والموارد المتاحة للتنمية الذاتية.

    من ناحية التركيبة العمرية، لا توجد بيانات رسمية حديثة عن التوزيع العمري أو معدل النمو السكاني بالضبط، لكن يعتبر السكان محصورين في المراكز الريفية والحضرية الصغيرة، ما يعني وجود تركيزات سكانية معتدلة الحجم.

    • الناتج المحلي الإجمالي ومصادر الدخل

    تعتمد محافظة السويداء اقتصادياً بشكل رئيس على الزراعة والإنتاج الحيوان. يزرع المزارعون المحليون محاصيل الحبوب (القمح والشعير) والخضروات، وتشتهر المحافظة ببعض أنواع الفواكه، كالعنب والتفاح بالإضافة لإنتاج متواضع للزيتون مقارنة بمناطق أخرى في سوريا.

    فيما يلي توزيعات قطاعية تقريبية لناتج السويداء: النشاط الزراعي هو الأكبر (لا توجد إحصاءات رسمية حديثة لكن يُقدّر أنه يشكل النسبة الأكبر من الناتج في المحافظة)، يليه القطاع الخدمي (~27.6%) والقطاع التجاري (~18.1%) وشبه الصناعة والنقل والاتصالات (~8.8%).

    ولا تتوفر بيانات علنية لمقدار الناتج المحلي الإجمالي للمحافظة حديثاً، لكن إذا أخذنا الناتج المحلي الإجمالي لسوريا (~23.6 مليار دولار في 2022)، فإن حصة السويداء (2.5% من سكان البلاد) ستكون بضع مئات الملايين من الدولارات سنوياً (في أحسن الأحوال).

    غياب أي ثروات باطنية كبيرة (كالنفط أو الغاز)، واعتمادها على الزراعة التقليدية، يجعل محافظة السويداء ضعيفة الاقتصاد نسبياً، وتدخلها في النمو الوطني محدود.

    كما لم تتطور فيها صناعات تحويلية كبيرة (يوجد معامل تقطير العنب، والسجاد الصوفي، وبعض الصناعات المحلية)، ولا تزال الخدمات (تعليم، صحة، تجارة) تُعَد ثانوية ضمن الاقتصاد المحلي.

    • البنية التحتية

    المياه: تعد شبكات مياه الشرب من أكثر القطاعات تدهوراً في السويداء. يواجه السكان شحّاً حاداً في المياه، حيث يحتاج سكان مدينة السويداء نحو 30,000 متر مكعب مياه يومياً لتلبية احتياجاتهم، في حين يغذي النظام في واقع الأمر حوالي 50 بئراً تتفاوت غزارتها (23 م³/ساعة لكل بئر)، والكثير منها متوقف بسبب الأعطال. تخزين المحافظة في السدود بلغ نحو 24 مليون م³ في موسم 2019 (لـ 11 سداً جُمعَت فيها الأمطار)، لكن ضعف تشغيل المضخات وشبكات التوزيع يسبب هدرًا وفقدانًا كبيرًا.

    باختصار، تحتاج المحافظة إلى صيانة ضخمة لمحطات الضخ وحفر آبار جديدة وإصلاح شبكات الأنابيب إنشائياً لضمان وصول المياه لجميع الأحياء.

    الكهرباء: تعتمد السويداء على الشبكة القومية للكهرباء، وقد شهدت انقطاعات متكررة خاصة في السنوات الأخيرة بسبب أعطال التوليد أو العبث في خطوط الضغط العالي، فضلاً عن سرقات الكثير من كابلات الربط النحاسية مؤخراً، والتي يُتهم فيها أطرافاً تخريبية من العصابات التي تنشط في المحافظة من عدّة سنين، ولها مصلحة بحالة عدم الاستقرار الحاصل.

    لا تتوفر إحصاءات رسمية معلنة عن قدرة التوليد المحلية (لا يوجد مشروع توليد كبير بالمحافظة نفسها)، الأمر الذي يجعلها رهينة بتغذية خارجية غالباً. أي انقطاع في الشبكة المركزية يؤدي إلى انقطاع تام بالكهرباء، ويعتمد السكان جزئياً على المولدات الخاصة أو الحكومية الضعيفة.

    لذا فإن تحسين البنية التحتية الكهربائية (محطات توليد محلية صغيرة أو تبطين الشبكات وتحسين الضخ) هو مطلب رئيسي لضمان تغذية مستقرة.

    الصحة: يفتقر القطاع الصحي إلى المنشآت المتطورة. تتوفر مستشفى مركزي في مدينة السويداء ويضم بعض الأقسام الأساسية (طوارئ، أطفال، جراحة، إلخ)، بالإضافة إلى عدة مشافي وعيادات ثانوية في الريف.

    لكن أعداد الأسرة والأطباء قليلة بالنسبة للكثافة السكانية، وتنقصها أحدث التقنيات. يبرز العجز في المواعيد الطويلة لسد حاجات المرضى، ونقص الأدوية والتجهيزات. لتحسين الخدمات الصحية، تتطلب المحافظة بناء وتجهيز مستشفيات إضافية أو تطوير القائم منها (بميزانيات قد تصل لمئات الملايين من الدولارات على الأقل) وتدريب الكوادر الطبية.

    التعليم: تحوي السويداء عددًا من المدارس الحكومية في المدن والقرى، بالإضافة إلى فرع لجامعة دمشق في السويداء. لكن مع تزايد الطلاب (خاصة بعد النزوح الداخلي) وكثافة الفصول، تُعدّ مدارس المحافظة مثقلة بعدد طلاب يفوق طاقتها. الجيل الصاعد يحتاج إلى صيانة وإضافة مبانٍ مدرسية ومخابر علمية وتجهيزات تعليمية حديثة. وخلافًا لمراكز التعليم العالي في المدن الكبرى، تظل السويداء في حاجة لرواتب معلمين وتشجيعهم (تعديلات رواتب ومناخ عمل أفضل) لتقليص هجرة الكفاءات.

    النقل: تتصل السويداء بشبكة طرق تربطها بالمحافظات المجاورة. وتنص المصادر على “وجود شبكة طرق تربط القرى والمدن في المحافظة بعضها ببعض وبالمحافظات الأخرى” طريق دمشق-السويداء السريع (الطريق القديم) هو الشريان الرئيس إلى العاصمة، والطرق الداخلية تربط شحيم، والسويداء، وبصرى الشام، وشهبا، وغيرها.

    إلا أن الحالة العامة للطرق ضعيفة: مليئة بالحفر، تفتقر إلى الصيانة الدورية، ولا يوجد خط سكة حديد ولا مطار مدني. وتحتاج المحافظة لتحسينات بتعبيد مسارات إضافية وخدمات نقل عام أفضل (حافلات نقل بين المدن والقرى) لزيادة التكامل الاقتصادي وسهولة الحركة.

    الاتصالات: توفر شبكات الهاتف الثابت والمتنقل (محلياً وإقليمياً) خدماتها إلى السويداء، وهناك تغطية للهاتف المحمول بشبكات الجيل الثالث والرابع. لكن البنية التحتية الرقمية متواضعة نسبيًا مقارنة بالمناطق الحضرية الكبرى؛ فالإنترنت غالباً ما يكون بطيئاً وتنقطع الكهرباء والاتصال أحياناً. إذ يحتاج تحسين الاتصالات (توسيع الأبراج الخلوية، تركيب الألياف الضوئية إن أمكن) لاستيعاب تراكم أعباء الطلب وتنمية الأنشطة الحديثة. على العموم، تظل البنية التحتية شبه متهالكة وتتطلب استثمارات ضخمة (مئات الملايين من الدولارات) لتلبي خدمات كافية لسكان المحافظة البالغ عددهم نصف مليون تقريبًا.

    • التكاليف الإدارية والتنظيمية

    إنشاء نظام حكم ذاتي كامل يستلزم بنية إدارية وسياسية جديدة: سلطة تشريعية (مجلس منتخب)، وحكومة محلية (مجالس وزارية محلية)، وقضاء خاص، وأجهزة أمنية (شرطة محلية)، وهيئات تنظيمية (مالية، محاسبية، تعليمية، صحية، إلخ). فقط البدء بمجلس محلي يعمل على شؤون البلد وإدارة الموازنة يحتاج إلى موارد كبيرة: رواتب الموظفين، مباني مكتبية، معدات إدارية وإلكترونية.

    مثلاً، على غرار تمويل السلطات الإقليمية في دول أخرى، قد يتطلب الأمر مئات الموظفين لكل قطاع (إدارة مياه، كهرباء، إلخ)، ما يعني رواتب سنوية بالملايين. بالمقارنة، الكانتونات السويسرية صغيرة (كمثال، تعداد كانتون غلاروس نحو 40 ألف نسمة)، ولكن لديها ميزانيات سنوية فدرالية ومراكز إدارية فعلية. ولو افترضنا تمويلًا مقاربًا بمعدل 1,500 دولار/للشخص (علماً أنّ في كانتون غلاروس فإنّ التمويل هو 3,000 دولار/للشخص. مبالغ بسيطة بالمعيار الدولي)، فإن نصف مليون نسمة سيحتاجون لحوالي $750 مليون دولار سنوياً فقط للأجور والخدمات الأساسية.

    وهذا رقم تقريبي جدًا، لكنه يشير إلى أن كلفة خلق الجهاز الإداري والتنظيمي ستقف على نطاق عشرات إلى مئات الملايين دولارات سنوياً لضمان إدارة مؤسسات تخدم 540 ألف نسمة. بالإضافة إلى تكاليف إعادة التأهيل، لا بد من تقدير ملايين أخرى.

    باختصار، عبء التكاليف الإدارية والتنظيمية في مرحلة الانطلاق سيكون ثقيلاً، لا سيما مع غياب خبرة محلية سابقة في الحكم الذاتي ومحدودية الموارد المالية الذاتية لمحافظة السويداء.

    • العجز المالي والإداري

    تكمن الصعوبة الكبرى في أن إيرادات المحافظة (التي تأتي أساساً من الضرائب المحلية المحدودة والمحاصيل الزراعية) لن تكفي لتغطية النفقات الضخمة لخدمة كامل السكان. حاليًا تعتمد محافظات سورية على حصتها من الميزانية العامة المركزية في دمشق.

    وفي حال انفصال ذاتي، سيتعين على السويداء تمويل كل مشروعاتها بنفسها (كتعليم وصحة وبنية تحتية جديدة). مع محدودية الاقتصاد الزراعي وعدم وجود مقومات اقتصادية كبرى (نفط، معادن، صناعة) في المحافظة، سيولد ذلك عجزاً مالياً ضخماً.

    على سبيل المثال، تُظهر بيانات اقتصادية أن كاتالونيا الإسبانية (منطقة غنية ذات حكم ذاتي) “تدفع حوالي 10 مليارات يورو أكثر” للموازنة المركزية مما تحصل عليه. أما السويداء فستكون مداخيلها أقلّ بكثير، وستحتاج دعمًا كبيرًا (إما لجوء لقروض مركزية أو المساعدات الخارجية) لسد فرق الأجور والخدمات.

    من الجانب الإداري، ثمة فجوة مَهَارية وإجرائية؛ فالكادر المحلي غير مدرب على إدارة الحكم الذاتي المعقد من أولوياته تنظيمية وشؤون لائحة، وقد يحتاج التدرب على اتخاذ القرار وصياغة السياسات. باختصار، العجز المالي والإداري المتوقّع سيكون كبيرًا مقارنة بما هو متاح؛ ومن الصعب تحقيق اكتفاء ذاتي تام دون دعم خارجي يملأ هذا الفراغ المزدوج.

    • التحديات السياسية

    إقامة حكم ذاتي في السويداء تندرج ضمن إطار سياسي حساس للغاية في سورية. أولاً، الدستور السوري الحالي يؤكد على «وحدة وسلامة الأراضي» ونظام حكم مركزي قوي، فلا توجد نصوص دستورية تسمح بإعطاء محافظات صلاحيات واسعة خارج سلطات الدولة المركزية. حاولت الإدارة السورية سابقًا تفويض بعض الصلاحيات للمجالس المحلية، لكن إبقاء السلطة بيد دمشق ظل التوجه الأساس.

    ثانياً، التوازنات الطائفية والسياسية: محافظة السويداء غنية بتنوعها الدرزي-المسيحي، وهو ما قد يثير مخاوف الحكومة المركزية من استمرار تلاحم هذه المكونات بعيداً عن نفوذ دمشق. علماً بأن أي توجه ذاتي قد يُعتبر تحركاً انفصالياً، ما يضعها في مواجهة مباشرة مع طموحات النظام بإبقاء كل مفاصل الدولة موحدة.

    ثالثاً، الوضع الراهن للحكومة المركزية: فإنّ الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع تعارض عملياً تقسيم الصلاحيات كلياً، خاصةً في ضوء تجارب الأكراد شمالاً الذين أعلنوا إدارة ذاتية لم يحظوا باعتراف دمشق.

    رابعاً، المصالح الإقليمية: تقع السويداء جنوب البلاد بجانب الأردن، وأي حكم ذاتي قد يتطلب تنسيق منفذ جمركي جديد معها. الحكومة المركزية قد تعتبر فتح معبر حدودي جديد أو صفقات مستقلة خارج سيطرتها أمرًا يمسّ سيادتها وأمنها المالي. أخيرًا، يُضاف عامل الثقة السياسية؛ فالسكان المحليين يحتاجون ضمانات بأن الحكم الذاتي سيُموَّل ويحترم من قبل المركز، والعكس صحيح.

    تاريخياً، انتفاضات السويداء الأخيرة كانت احتجاجات من أجل الإصلاح الداخلي والخدمات وليس دعوات مؤسَّسة للانفصال.

    وبالتالي، فإن فرض حكم ذاتي كامل يواجه شكوكية جدية من دمشق، وسيتطلب حوارات وتعديل دستوري وضمانات دولية، في ظل غياب أي مؤشرات على استعداد النظام المركزي للتسليم.

    مقارنة مع نموذج كردستان العراق وبعض النماذج الأوروبية اللامركزية

    نموذج كردستان العراق، بمقارنة بسيطة بين نموذج كردستان العراق والسويداء “إن حصلت على حكم ذاتي”، نجد أنّ:

    في الإطار الدستوري والسياسي، كردستان العراق: يمتلك الإقليم اعترافاً دستورياً ضمن الدستور العراقي لعام 2005، ويتمتع بحكومة وبرلمان وقوات أمن (البيشمركة) وممثلين دوليين.

    أمّا السويداء: لا يوجد أي اعتراف دستوري أو قانوني بالحكم الذاتي. النظام في دمشق مركزي شديد، ولا يسمح بأي شكل من أشكال الفيدرالية أو اللامركزية خارج نطاق السلطات المعينة. ما يعني أنّ كردستان تأسس بدعم إقليمي ودولي، بينما أي تجربة مشابهة في السويداء ستُعد تحدياً صريحاً للحكومة المركزية.

    المقومات الاقتصادية، كردستان: يمتلك الإقليم موارد نفطية ضخمة (يُنتج حوالي 450 ألف برميل يومياً)، ومنافذ حدودية مع تركيا وإيران تسهم في التبادل التجاري.

    أمّا السويداء: تعتمد بشكل أساسي على الزراعة التقليدية (التفاح، العنب، الحبوب)، ولا تملك موارد طبيعية كبيرة، كما لا تملك معابر حدودية فاعلة. ما يعني أنّ القدرة التمويلية الذاتية في السويداء محدودة جداً مقارنة بكردستان، مما يهدد أي تجربة بالحكم الذاتي بالفشل ما لم تحصل على دعم خارجي.

    البنية التحتية والمؤسسات، كردستان: يملك مؤسسات تعليمية وصحية وإدارية مستقلة إلى حد كبير، بالإضافة إلى مطارَيْن دوليين.

    أمّا السويداء: تعاني من تدهور كبير في البنية التحتية، لا توجد مطارات، ومشاكل مزمنة في الكهرباء، والمياه، والخدمات الصحية، والتعليم.

    الدعم الشعبي والهوية، كردستان: يتمتع الإقليم بدعم شعبي قوي للحكم الذاتي، مبني على قومية كردية واضحة.

    أمّا السويداء: رغم التمايز الطائفي (غالبية درزية)، إلا أن المجتمع أكثر تنوعاً فكرياً، والدعوات للحكم الذاتي ما تزال مثار جدل، ولا تملك إجماعاً واضحاً.

    الحماية الأمنية، كردستان: قوات البيشمركة منظمة وتلقى تدريبات وتسليحاً، مع دعم أمريكي وغربي.

    أمّا السويداء: تعتمد على فصائل محلية غير منظمة، بلا دعم خارجي أو تنظيم عسكري فعّال.

    وعندما يتغنّى البعض بالتجارب الأوروبيّة، بالمقارنة مع بعض التجارب الأوروبية:

    النموذج السويسري: ينصّ الدستور الفدرالي السويسري على أن الكانتونات (المقاطعات) “ذات سيادة” ما لم تُقيّد سيادتها بقوانين فدرالية لكل كانتون دستور وحكومة وبرلمان خاص به، ويملك صلاحيات واسعة (ضريبة، تعليم، صحة، شرطة محلية)، بينما تبقى صلاحيات محدودة للدولة الاتحادية (الدفاع، العملة، البريد).

    إذا قمنا بمقارنة ذلك بمحافظة السويداء (500 ألف نسمة)، فإن السويسريين وزّعوا الصلاحيات على مستوى أصغر (أصغر كانتون 40 ألف نسمة) لكن مع اقتصاد قوي وبُنى تحتية متطورة. يتمتع السكان بحقائب مالية فعلية من ضرائبهم، ويُديرون شؤونهم المحلية بفعالية وديمقراطية مباشرة. تطبيق نموذج كهذا في السويداء يتطلب تغييرات راديكالية (مثل دستور فدرالي جديد)، واستعداد شعبي لممارسة الديمقراطية المباشرة، واستقلال اقتصادي كاملا، وهو ما يستدعي تطوير الاقتصاد والتعليم والمهارات بشكل بالغ.

    نموذج كتالونيا (إسبانيا): تتمتع كتالونيا بحكم ذاتي واسع ضمن الدولة الإسبانية، حيث تملك حكومة إقليمية وبرلماناً خاصاً. نصف ضرائب الدخل والقيمة المضافة (VAT) المحصلة في كتالونيا تُعاد للإقليم (والنصف الآخر الحكومة المركزية في مدريد)، مما يمنحها استقلالاً جزئياً مالياً.

    كما تدير الحكومة المحلية قطاعات كالتعليم والصحة والثقافة والأمن (من خلال شرطة محلية مخصصة – «موسوس دوسكوادرا). بالمقابل، تظل أموراً مهمة في يد الحكومة المركزية الإسبانية (الدفاع، الخارجية، الهجرة، السياسات الاقتصادية الكبرى. (مقارنة بالسويداء: كتالونيا أكبر سكانياً (~7.5 مليون) واقتصادياً (من أغنى الأقاليم)، وتمتلك بنية تحتية وتجهيزات وكفاءات إدارية عالية.

    بينما لو حاولت السويداء محاكاة هذا النموذج، فسيكون عليها بناء كفاءة ضريبية محلية لتحصيل ضرائب كافية، وإنشاء قوات أمن محلية، وإعادة هيكلة المؤسسات التعليمية والصحية لتكون تحت إدارة الإقليم. بخلاف كتالونيا التي بنت قدرات على مدى عقود ضمن دولة مستقرة، السويداء تفتقد حالياً لهذه الأسس البيروقراطية.

    النظام الإقليمي الإيطالي: ينص الدستور الإيطالي على أن كل من الأقاليم العشرين “كيان ذو حكم ذاتي بصلاحيات محددة”.  خمس أقاليم (صقلية، سردينيا، ترينتينو، فالي دا أوستا، فريولي) لها وضع خاص يمنحها المزيد من الصلاحيات، لكن كل الأقاليم تدار بمنشآت حكومية محلية (مجالس إقليمية وحكومات محلية). حصلت الأقاليم على صلاحيّات متزايدة (تعليم، صحة، نقل، إلخ) بعد إصلاحات دستورية عام 2001.

    نُشير إلى أن التركيبة الإقليمية الإيطالية نشأت تاريخياً ضمن دولة وحدة، فكل إقليم له مساهمة معتدلة في الضرائب الوطنية لكنه يحصل أيضاً على تمويل من روما.

    بالمقارنة، السويداء لن تكون من دول الاتحاد أو من دول تملك قدرات مالية ذاتية، فستحتاج تمويلًا مركزيًا أو اتحاديًا مستمرًا. في إيطاليا تم بناء الحكم اللامركزي على مراحل طويلة بغنى اقتصادي وفائض ضريبي؛ أما سويداء فلا تملك فائضًا من هذا النوع، ولن تجد سنداً لامركزي مماثل دون تعديلات دستورية عميقة.

    الخلاصة:

    الإيجابيات المحتملة لنموذج لامركزي أو ذاتي (سمّه ما شئت) في السويداء قد تشمل: (1) إدارة محلية أقرب لأهلها قد تؤدي لاستجابة أسرع لاحتياجات المواطنين؛ (2) تمكين المجتمعات المحلية خصوصاً الدرزية منها من إدارة مواردها (كالأراضي الزراعية) بحرية أكبر؛ (3) رفع الشعور بالمشاركة السياسية بين الشباب والناشطين الذين تقصّر عن دمشق؛ (4) إمكانية ولو ضعيفة لاستقطاب استثمارات محلية.

    أمّا السلبيات والمعوقات الواضحة تشمل: محدودية الموارد الذاتية وانعدام الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، الحاجة إلى تمويل خارجي ضخم، غياب الموارد، هشاشة البنية التحتية، كما غياب الإطار القانوني والدعم الدولي يفتح احتمال صراع مع الحكومة المركزية وخطر تقويض وحدة الدولة، وضعف الخبرات الإدارية المحلية، وأيضاً هشاشة الوضع الأمني إن لم تكن المؤسسات الأمنية والعدلية راسخة ومتوافقة مع الحكومة المركزية في دمشق.

    في المجمل، السويداء لا تملك في الوقت الحالي مقومات حقيقية للحكم الذاتي على غرار كردستان العراق أو أي نموذج آخر، فحكم ذاتي كامل في السويداء لن يقوم بسهولة في ظل الظروف الحالية. تحتاج المحافظة أولاً لبناء اقتصاد متماسك (مثلاً تطوير التعاونيات الزراعية، والسياحة الزراعية والثقافية)، وتحسين الخدمات الأساسية بشكل كبير، ثم النظر في أطر دستورية تسمح بلامركزية محدودة. وحتى مع ذلك، ستظل التحديات الهائلة تجعل فكرة حكم ذاتي فعلي خياراً بعيداً لا يستقيم دون دعم خارجي وتوافق سياسي بين جميع الأطراف، إلى حين ذلك تبقى الفكرة أقرب إلى الطموح منها إلى الواقعية.

    اظهر المزيد

    مقالات ذات صلة

    اترك تعليقاً

    زر الذهاب إلى الأعلى