fbpx

إشكالات الديمقراطيين؛ سوريا نموذجاً

الكاتب: عقاب يحيى مصطلح الديمقراطيين فضفاض، وواسع، ويحمل في صلبه تناقضاته. فمن حيث التعريف:

  • أولاً: يعني فئات واسعة من اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة تصنَّف، أو تصنف نفسها تحت هذا المسمّى، ويشمل عموماً العلمانيين بتكويناتهم المختلفة، والليبراليين واليساريين والنخب المثقفة التي تنسب نفسها إلى هذا الاتجاه.
  • ثانياً: يحمل تناقضاته بين هذه الفئات التي قد تكون مختلفة فكرياً وسياسياً، كما هو الحال بين فئات المحسوبين على العلمانية في مروحة واسعة أو الليبراليين بتجاوز الاقتصادي إلى الفكري، علاوة على المصنفين يساريين في توجهاتهم الماركسية والقومية وما بينهما، ويمكن أن يشمل أيضاً بعض الاتجاهات الإسلامية التي تحاول التمايز عن السائد في الإسلام السياسي.
  • ثالثاً: تاريخياً؛ غالباً ما كان العنوان يتناقض مع مضامينه بالنسبة إلى الاتجاهات اليسارية التي كانت تختار الشكل والاسم بينما هي في المضمون تؤمن بما يعرف بدكتاتورية البروليتاريا، أو بما يسمى الديمقراطية الشعبية التي كانت أهم ارتكازاتها مصادرة الحريات الديمقراطية العامة والخاصة لمصلحة توليفة فكرية أوجدتها متغيرات روسيا عند قيام الثورة البلشفية 1917 بمسحة لينينية تركت بصماتها، ثم شاع الاسم تمييزاً عن الأحزاب البورجوازية مثلاً، أو ترسيماً لفكرة تراكب الثورتين الديمقراطية والاشتراكية، أو الوطنية والاشتراكية، ضمن فلسفة حرق المراحل، في حين إن تلك الاتجاهات كانت مؤمنة بأحادية الحزب ودوره القيادي، وبعمليات تكييف المجتمع وفق تصورات مسبقة، وبالشمولية نهجاً، وإقصاء الآخرين المعادين درجة شرعنة التصفية عبر مفهوم العنف الثوري ومقتضياته.

من التعريف إلى الواقع يمكن تسجيل الملاحظات الواقعية الآتية 1- هذا التعريف فضفاض جداً يحاول ضمّ قوى واتجاهات مختلفة ومتناقضة -بل متصارعة أحياناً- أو تصنيفها، وبعضها ينفي الآخر ولا يعترف بحقه في الوجود الفكري والسياسي، وهو بذلك أشدّ فضفضة من تعبير الإسلام السياسي، أو الإسلاموية التي تتفق في المرجعية وتختلف في كثير، إذ تتجاوز التفاصيل إلى البنيان الفكري والسياسي، وحتى العقيدي، علاوة على خلافات المذاهب وما بينها من تباينات فمرجعيات الديمقراطيين ليست واحدة، بينما الإسلام السياسي بمختلف مذاهبه واجتهاداته يعتبر الإسلام عقيدته، بغض النظر عن مسافات الاختلاف، والصراع. 2- لقد سُحقت البورجوازية التقليدية، أو الوطنية التي أنتجت النظام الديمقراطي بعد استقلال سوريا من خلال التأميمات المتلاحقة، وقوانين الإصلاح الزراعي، والنهج السياسي الذي ساد عبر حكم الحزب الواحد القائد فاعتبرها العدو الأول والرئيس، ونمت بدلاً منها بورجوازيات طفيلية، كمبرادورية وبيرقراطية إفرازاً للنظام ملحقة به. البورجوازية الوطنية، الإنتاجية، الصناعية متنافسة في ما بينها، والتنافس كان يعني التعددية، وحرية الاقتصاد، ومن ثم الرأي والأحزاب والنقابات، وهيئات المجتمع المدني والأهلي، بينما البورجوازية التي نمت على هامش القطاع العام أو في ظلّ احتكار الدولة للتجارتين الخارجية والداخلية، ثم عبر الاستيراد المقنن، والمشاركة مع مافيات النظام هي استهلاكية، خدمية بصفة عامة، وتغلب عليها أعمال السمسرة والتسهيل، ومن ثم لا يمكن أن تنتج أو تفرز الحريات الخاصة، والديمقراطية. على العكس غالباً ما كانت جزءاً من أدوات الاستبداد وواجهاته المزوّرة. 3- هشّم نظام الاستبداد والأحادية الحياة السياسية حدّ التصحّر، ولاحق الفكر الحر، والمعارض في عمليات تعليب قسرية تفرضها أجهزة الأمن شبه مطلقة الصلاحيات، ورسّخ نهج الأحادية والاستئصال، وعمليات تطويع الآخر وإخضاعه بالقوة والتخويف والحرب المفتوحة للقمة العيش والعمل، وإشاعة فكر مجتمع الاستهلاك وعلاقاته والوساطة والرشوة والعلاقات العائلية والطائفية وغيرها، وتفسيخ الوحدة الوطنية بصراعات عمودية، وترك ذلك أثره في الحياة السياسية درجة الإعدام، وانتشار بدائل ترقيعية، انتهازية تعايشية. في الوقت نفسه كان الجهد الأمني الرئيس يتجه إلى قوى المعارضة السياسية لخنقها ومطاردتها وحصارها، وصولاً إلى التصفية المباشرة لناشطيها، أو من خلال تجفيف بحيرة حاضنتها الشعبية، وحملات الاعتقال المركّزة، والسجن الطويل لقادتها وإطاراتها، والعمل على اختراقها وتجويفها من داخلها إن أمكن، وبعثرتها ونقل الأزمات إليها بما جعلها ضعيفة ومشتتة تواجه أغلبها أزمات مركّبة منها الأوضاع المالية الصعبة، والعجز عن القيام بمسؤولياتها تجاه المعتقلين وأسرهم، بسبب الارتدادات السلبية وردات الأفعال عليها، وبما كان يضيّق قاعدتها الشعبية. العمل السري الذي اضطرت إليه جلّ قوى المعارضة عقوداً متتالية ترك أثره في بناها وداخلها، ذلك أنه يسجنها في حلقات ضيّقة، ويبعدها عن حركة الشارع والناس، ويقوقعها في المناقشات النظرية التي غالباً ما تولّد عوامل الخلاف والتشقق، وأرشفة برامج العمل أو خططه، واتساع المسافة بين الشعارات والواقع، وبينها وبين الممارسة. 4- كانت تصعب بلورة فكر ديمقراطي في غياب الحريات الديمقراطية أو مصادرتها، وشيوع أدلجات الفكر العقائدي، واليساري التقليدي لدى مجمل الأحزاب المعارضة، وحتى أصحاب التوجهات اليسارية، والمثقفة، إضافة إلى موقع الممارسة من الشعارات المرفوعة، إذ إن تركيبة شخصية الأحزاب غالباً ما كانت متأثرة إلى حدّ بعيد بمنظومة العقائد والأفكار الأحادية، أو الثورية التي سادت طويلاً. ضمن هذا الواقع لا يمكن الحديث عن حركة ديمقراطية، أو أحزاب ديمقراطية تساهم في بناء الفرد، وتترجم ذلك في حياتها الداخلية وفي تداول المواقع، إذ كثيراً ما كان الأمين العام أو رئيس الحزب يستمر عقوداً، ومثله عدد من أعضاء القيادة، بما يحاكي نظام الاستبداد القائم، أهم من ذلك ضعف ثقة المواطن بصدقية تلك الأحزاب، أو بقدراتها على ترجمة شعاراتها. لقد أخذت تدريجياً أفكار الديمقراطية بالانتشار، ومن خلفيات ولأسباب مختلفة، منها مثلاً معارضة النظام الذي يرفع شعارات الاشتراكية، أو شبه الاشتراكية، والحزب الواحد القائد. ظلت تلك الأفكار مخلوطة بالبعد أو الفكر التقدمي في محاولات للتزاوج بينهما، أو الخوف من الاتهام بالنكوص والرجعية سنوات طويلة، ثم بدأت البلورة المتنامية تشق طريقها بصعوبة بسبب الخوف من ضربات النظام المتعاقبة. ويمكن تأكيد أن وثيقة التجمع الوطني الديمقراطي الذي أُعلن في نهاية عام 1979 بين خمس قوى معارضة كان نقلة نوعية في السائد من المفهومات، وفتح الطريق لتطورات مهمة، وقد نصّ صراحة على التغيير الجذري لنظام الاستبداد، وإقامة النظام الديمقراطي التعددي التداولي، ومثله البيان الرئيس الذي صدر في بداية عام 1980 الذي كان السبب المباشر لحملة اعتقالات واسعة لعدد من القوى الموقّعة على التجمع، وهي الانعطافة التي خنقها النظام بحربه الضروس ضد قوى التغيير كافة تحت رايات محاربة الظلامية، وفي إطار الحرب المفتوحة على الحركة الإسلامية وفروعها المسلحة، ليضرب بها -عبر أخطائها- القوى غير الإسلامية، ويقطع عليها طريق استكمال مشروعها البديل. 5- كانت مجزرة حماة في فبراير/ شباط 1982 انعطافة مهمة في تاريخ تسيّد النظام وتشديد قبضته على رقاب السوريين بعامة والمعارضة بخاصة، حين لقّن الشعب السوري كله درساً بليغاً في المدى الذي يمكن أن يذهب إليه ليس على صعيد تصفية الخصوم وحسب، وإنما أيضاً في إقامة مجازر شعبية لمدن ومناطق بكاملها، ما كرّس مناخ الإخضاع وألقى بكلكله على القوى المعارضة، والحراك الديمقراطي الجنيني المتقطع. في الحقيقة إن مجموعات المثقفين هي التي انبرت بشكل رئيس للتصدي لذلك الواقع المغلق عبر بثّ أفكار الحرية ونقد السائد، لكنها لم تتحوّل إلى حركة ملموسة سوى بعد وفاة الطاغية الأكبر، وفرض التوريث بتلك الطريقة المسرحية، وما استدعته من ادعاءات الإصلاح والتغيير التي تضمنها خطاب الوريث لتمريره، وهو ما تكشّف بسرعة، وبعد أشهر قليلة من تكريس التوريث واستقرار الوضع. لقد كان إعلان دمشق نقلة نوعية في الحراك الديمقراطي عبر الطيف السياسي الواسع الذي شارك فيه، بما في ذلك انضمام عدد من الاتجاهات الإسلامية المعتدلة إليه، ومباركة جماعة الإخوان المسلمين له، وبوثائقه الواضحة الصريحة المنادية بعملية التغيير الديمقراطي، وهو الأمر الذي لم يحتمله نظام الأحادية، كاشفاً طبيعته الحاقدة، فلاحق أعضاء الأمانة العامة للإعلان بشراسة واعتقلهم، ما أدى إلى إضعاف وتيرة نشاطه. وتواصل الأمر زمناً حتى قيام ما عرف بربيع دمشق الذي قادته شخصيات مثقفة محسوبة في معظمها على الاتجاه اليساري والعلماني الذي نجح في عبور أغلال القيود المفروضة وحواجز الخوف بالتوجه إلى هيئات المجتمع المدني التي أخذت بالانتشار السريع، ومعها المنتديات التي فتح بعضها المجال لحوارات جريئة وعميقة تتناول إشكالية الوضع الاستبدادي، وضرورات التغيير الجذري، وإقامة البديل التعددي الديمقراطي، وتوقيع بيان الألف الشهير، ثم بيان إعلان دمشق في بيروت وسط حراك شعبي آخذ بالاتساع. كالعادة كشف النظام وجهه الحقيقي واعتقل عدداً كبيراً من قيادات ذلك الربيع ورموزه ولاحق الناشطين، وعمل على تشويه طبيعته، محاولاً ربطه بجهات خارجية وهي الحال التي كانت عليها الأوضاع السورية عشية الثورة التي ربما فاجأت كثيرين بقيامها واستمرارها. الثورة والتغيير فاجأت الثورة الجميع، وأولهم الأحزاب السياسية المعارضة، وجلّ النخب المثقفة، وإن كانت تمثل في عمقها ذلك التواصل الذي استند إلى تراكمات النضال والتضحيات للتغيير. كانت القوى التقليدية التي لم تفجر الثورة تعيش حالة جزر شديدة، والأغلبية شككت في قدرة الشعب السوري على تحطيم جدران مملكة الرعب عالية الأسوار، وُلدت الثورة في هذا الرحم، متأثرة إلى درجة كبيرة بثورات ما يعرف بالربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا، وحين قابلها النظام بالرصاص والقتل منحها جذوة الاستمرار والتحدي وانخراط أعداد كبيرة فيها فاقت التوقعات والتقديرات. رفعت الثورة السورية شعارات واضحة تلخص جوهرها في: الحرية والكرامة والعدالة، فاستقطبت فئات شعبية وسياسية واسعة الطيف، متعددة المرجعيات، لكنها في الوقت نفسه افتقرت إلى القيادة الموحدة، وكان هذا أحد أهم إشكالاتها الذي يستحق بحثاً خاصاً. لقد برزت إلى السطح النخب المثقفة التي تنتمي إلى اتجاهات ديمقراطية عريضة، واحتلّ كثيرها شاشات الفضائيات، وشارك كثيرون في الثورة ومؤسساتها التي نهضت لكنها لم تكن مؤثرة في القرار ولا المسار، وهذا ما كان يفتح المجال للأسئلة والاتهامات. عوض مناقشة أسباب بعثرة الديمقراطيين، وضعف تأثيرهم في الأرض انهالوا بالاتهامات ضد الإسلاميين، يحمّلونهم مسؤولية محاولة اختطاف الثورة، وجرجرتها إلى حيث يريدون بعيداً من جوهر أهدافها وغاياتها. كان ذلك قبل طغيان العَسكرة وما صار لها وفيها، وقبل تلك الأسلمة المصطنعة التي ساهمت في تشويه الثورة وانفضاض فئات كثيرة عنها من حواضنها الشعبية، أو من الأقليات المذهبية وغير الإسلامية، وفي مناقشات واسعة كانت تجري بين لفيف مهم من الديمقراطيين واليساريين، عبر عدد من الغرف الحوارية كان الخلاف بيّناً في أسباب ضعف وجود الاتجاه الديمقراطي وفاعليته، ففي حين كان هناك من يلقي باللائمة على الإسلاميين في كل شيء حتى هذا الوضع والاستحواز والسيطرة، كانت هناك أصوات قوية تدعو إلى وقفة نقدية ذاتية تكشف الأسباب الداخلية، وتضع بعض النقاط على أحرف التشتت وضعف العقل الجمعي، والفاعلية على الأرض، والمسافة بين الشعارات والممارسة. وفي سبيل وحدة الاتجاهات الديمقراطية جرت محاولات متلاحقة عبر عدد من المؤتمرات التي وجدت تمويلاً لها من قبل بعض الأثرياء السوريين، فكان المنبر الديمقراطي أول تلك اللقاءات المهمة بحضور فاعل لعدد كبير من الشخصيات والفاعليات، لكنه سرعان ما شهد خلافات داخلية أدّت إلى زعزعته، وتشتت الآمال التي عقدت عليه. نهضت تنظيمات وتشكيلات سياسية وتيارية عدة حملت الديمقراطية عنواناً معظمها من مرجعيات يسارية، وأيتام الأحزاب العلمانية، وفي حين تلاشى بعضها، ما يزال قسم منها يشكل حضوره النسبي، مع ترسيخ ظاهرة تعدد العناوين والتشكيلات المتشابهة في برامجها وفلسفاتها، وحتى في الأسماء. مواصلة لتجربة المنبر الديمقراطي وفكرة توحيد الاتجاهات الديمقراطية، عقد لقاء واسع باسم القطب الديمقراطي ضمّ لفيفاً من التشكيلات الصغيرة والرموز والشخصيات المحسوبة على الاتجاه الديمقراطي، وتبيّن أن الهدف الرئيس هو المشاركة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بكتلة وازنة، وبشعار تعديل المسار، وترجيح كفّة الديمقراطيين فيه، أو إحداث التوازن مع الإسلاميين الذين يعتبر كثيرون أنهم القوة المسيطرة عليه عبر المنتمين رسمياً إلى جماعة الإخوان المسلمين والمحسوبين عليهم الذين ينفي عدد منهم علاقته بتلك الجماعة تنظيمياً، وما يمكن تسميته بالإسلام السياسي الجديد الذي يتوزع في عدد من العناوين. وللمناسبة لم يحدث توسيع الائتلاف الهدف الذي توخاه دعاة التغيير، على العكس فقد شكل عبئاً ثقيلاً عليه عبر الزجّ بأسماء لا علاقة لها بالديمقراطية، وإشراك عدد كبير مما يسمّى بالحراك الثوري وكتلة الأركان التي كان الهدف منها كما ظهر العملية الانتخابية التي عرفت للمرة الأولى بشكل ظاهر استخدام المال السياسي في عملية التصويت. وكان آخر المحاولات التوحيدية، أو التجميعية لما يعرف بالديمقراطيين عقد مؤتمر واسع تحت عنوان اتحاد الديمقراطيين بحضور كثيف لأسماء معروفة وتنظيمات جديدة وانتخاب قيادة له؛ ثم سرعان ما عرف انشقاقاً واسعاً، وخلافات عميقة عبّرت عن نفسها بطرائق متخلفة في المهاترات، وتوزيع الاتهامات، وفي حين يستمر اتحاد الديمقراطيين عنواناً إلا أن فاعليته تراجعت كثيراً، وانحسرت قاعدته المنضوية فيه، يعزو بعض من بقي في قيادته الأمر إلى ضعف الإمكانات المالية، وعدم وجود مصادر للتمويل. بعض عناوين إشكالية الديمقراطيين 1- أظن أن أهم إشكالات الديمقراطيين، أو بالأدق المحسوبين على هذا الاتجاه، الحالة النخبوية بتفرّعاتها كلها، وظواهر أمراضها، وبخاصة لجهة الفوقية، والعجز عن التواصل والاندماج مع القاعدة الشعبية العريضة بما يجعل الهوة كبيرة بينهم وبين الذين يتوجهون إليهم، وكذلك الأمر في تضخّم الذات والأنا وتغليبها على العام، وهو ما يبرز جلياً في الخلافات البينية الحادة، وفي مناقلة التحالفات التي لا يستمر معظمها طويلاً، بينما يتورّم بعضهم درجة الأحادية والتوحد، وعملياً درجة رفض الآخر الذي يمكن أن يكون من الاتجاه نفسه. 2- هذه التركيبة النخبوية الفردية تفسر تعدد التشكيلات المتشابهة ورفض توحيدها، أو الاندماج في ما بينها، بينما لمن تصل التحالفات التي قامت إلى مستوى تحقيق الحدّ الأدنى من الأهداف المتوخاة. هكذا تعرف الساحة السورية وجود عشرات بل مئات التنظيمات والتيارات التي تحمل العنوان نفسه، وتدّعي أنها البديل الديمقراطي، وتتشابه في الفكر والبرامج، لكنها غير قادرة على التنسيق في ما بينها، فما بالك بالتوحد والاندماج. 3- يجب التنبيه إلى الجانب النفعي ودوره لدى بعض الأفراد والتشكيلات، ذلك أن بعضها يموّل من جهات خارجية أوروبية وأمريكية، لذلك قد يحمل التوحد والاندماج نهاية للدعم الذي تتلقاه تلك التنظيمات والقائمين عليها، ونعرف في هذا المجال أن آلاف المنظمات المحسوبة على هيئات المجتمع المدني تتلقى دعماً مستمراً من جهات أوروبية وغربية لذلك تكاثرت ولذلك يصعب توحيدها. 4- هناك إشكالات خلافية حول هوية المحسوبين على الاتجاهات الديمقراطية وانتماءاتهم في مسائل تأسيسية تطال مثلاً جوهر الفهم الديمقراطي، وخصائص النظام الديمقراطي، والخلاف الواسع حول مضامين الديمقراطية، وموقع الإسلام في الهوية الوطنية وتشكيل الشخصية والثقافة، وكذلك الأمة والقومية، ومشكلات خلافية عدة تظهر مرتسماتها حين تقترب بعض التشكيلات من عمليات التحالف والتنسيق، أو في الرؤى السياسية، والبرامج ومضامين الدولة المنشودة. هناك عوامل موضوعية لا علاقة للديمقراطيين بها وبمفعولاتها القوية، تعود إلى: 1- بنية المجتمع والقابلية لتقبل أفكار الديمقراطيين وطروحاتهم، وبخاصة بعد مدّة من الثورة، والانتقال من السلمية إلى العَسكرة. إن انتشار الحالة الإسلامية، الإيمانية والتوظيفية، والدينية عموماً، ثم الانقسام المذهبي الذي تغذّى بمشروعات وافدة وبردات الفعل القوية، يشكل حجاباً حاجزاً أمام انتشار الأفكار الديمقراطية وقوتها، ونعرف أن الثورة، منذ بداياتها، كانت متأثرة بالطابع الإيماني، ترفع شعارات دينية عامة، تنطلق التظاهرات معظمها من المساجد، ما كان يقوّي النزعة الدينية والإيمانية عند الكتلة الشعبية التي التحقت بالثورة، كان ذلك يتنافى مع القبول الفكري العلماني المتهم بالكفر والإلحاد وقد استفادت القوى الدينية المسيسة، وجهات خارجية من هذا الوضع لتوسيع الهوّة بين فئات الشعب، والزج بالأدلجة والعقائد توظيفاً لمصلحة مشروعاتها الخاصة. 2- طغيان الأسلمة والتشدد، وتصفية الجانب السلمي للثورة على حساب العمل المسلح، وأفكار الجهاد، وتكريس الصراع المذهبي بديلاً للصراع الاجتماعي، ثم ولادة حركات التطرف والإرهاب التي كانت نقيضاً للفكر الحداثي والعلماني والديمقراطي، أثّرت كثيراً في انتشاره، بل حاصرت ولفظت -حيث استطاعت- كثيراً من رموزه وأطلقت أحكاماً شبه شرعية ضد الاتجاهات الديمقراطية وسط شيوع المحاكم الشرعية، وقوة المنظمات الإرهابية. وقد تأثرت الحواضن الشعبية، وبخاصة تلك التي تعود إلى أصل ريفي بهذا الموج القوي، فبرزت مظاهر الأسلمة والتديّن حتى في أوساط كانت منفتحة، وانحسرت الحواضن الشعبية المؤيدة للثورة في المدن وضمن ما يعرف بالمكونات الدينية والمذهبية. 3- طغيان الأسلمة السياسية المعَسْكرة، ثم ظاهرة الفصائل المسلحة المدعومة من قوى إقليمية وعربية كان لها تأثيرها القوي في الاتجاهات المخالفة كلها، وقد حدثت تصفيات كبيرة لتشكيلات وقوى عسكرية مناقضة لتلك الاتجاهات، بينما عانت الاتجاهات الديمقراطية أنواعاً مختلفة من الحروب والمضايقات، وانعكس ذلك بلا شك في زخمها ووجودها وحضورها، بينما التحق بعض بتلك التحولات بشكل تبعي، أو عبر تغيير انتمائه. 4- بينما تدفق التمويل بلا حساب على الفصائل المسلحة، وعدد من الحركات الإسلاموية كانت الاتجاهات والتشكيلات السياسية الديمقراطية تواجه الضنك وما يشبه الحصار مما كان له أثره البالغ في وضع مختلف تلك التشكيلات. لكن بعد الهزيمة في حلب، وتوالي مسلسل الانزياحات، وفقدان الثورة معظم المناطق التي كانت تحت سيطرتها، وانتهاء الواقع الفصائلي بقرار دولي وواقعي، فإن وضعاً جديداً يتنامى في سوريا الثورة تعلن تباشيره نهاية تلك الأسلمة الطارئة ومحاولات عودة الثورة إلى روحها السلمية الشعبية، بما يهيّئ الأجواء الملائمة لنمو الاتجاهات الديمقراطية، وبما يطرح على الديمقراطيين مهمات كبيرة للنهوض بالثورة من واقعها الصعب، وتحمل مسؤولية مواجهة الأخطار المحيقة بالوطن ضمن ترجمة شعار الاصطفاف الوطني، والعمل المنظم لاستعادة القرار الوطني، وتحقيق الأهداف التي قامت الثورة لأجلها. هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى