fbpx

قراءة أخرى لقضية اختفاء الخاشقجي

الكاتب: عبد الله عساف التضامن مع صحافي مختفٍ هو مسألة أخلاقية وإنسانية، ولا يمكن أبداً تسويغ اختفائه القسري ولا يمكن أبداً القبول بما يحدث من اضطهاد لأي صحافي في العالم، هذه مسألة غير قابلة للمناقشة، لكن غياب الوجدان المهني والأخلاقي لاستغلال مثل هذه القضية لتصفية حسابات سياسية على حساب البعد الإنساني أمر غير مقبول، وهذا ما يجعلنا نفكر بعقلانية بعيداً من الانفعال العاطفي؛ لنحلل هذا السعار القطري الإخواني في قضية الخاشقجي.

  • تساؤلات عقلانية

الرواية التي قدمها الإعلام القطري بالتعاون مع مؤسسات الإخوان المسلمين الإعلامية حول اختفاء الإعلامي جمال خاشقجي كانت مثيرة للغاية، بحيث شكلت صدمة لوسائل الإعلام العالمية، جعلتها تتوجه قسراً نحو تحويل لغز اختفاء خاشقجي إلى المادة الأولى في المستوى العالمي، وذلك من حيث الأسلوب الذي استخدم في عرض مسألة الاختفاء، وسرد الجزيرة وشركائها لحكاية فريدة من نوعها، لم يسبق أن حصلت. تدور الحكاية حول دخول خاشقجي إلى القنصلية السعودية في إسطنبول، لكن بحسب رواية قناة الجزيرة القطرية، وبحسب إعلام المؤسسات الإخوانية، فقد خرج جمال خاشقجي من القنصلية بعد ساعات قليلة مقطعاً، بعدما عُذِّب ساعات، واستطردت بالقول إن فريقاً متخصصاً وصل من السعودية، لتنفيذ هذه المهمة. في بداية الأمر نُسبت هذه المعلومات إلى مصدر حكومي لم يذكر اسمه، ثم ظهرت شخصية امرأة تدعي أنها خطيبته، ثم لُفتت الأنظار بطريقة مختلفة نحو مصدر إعلامي تركي متابع للأمر، تبين أنه الإعلامي التركي طوران قيشلاقجي المدير السابق لوكالة الأناضول التركية، والمدير السابق أيضاً لقناة TRT العربية التركية الذي توقف عن العمل منذ عامين، ولا يشغل أي منصب رسمي بتاتاً، وعلاقته بإدارة بيت الإعلاميين العرب هي علاقة مؤقتة، فبدا هو الآخر ضحية وضعه في صورة المشهد. إذاً من الذي سرب المعلومات إلى قيشلاقجي لكي يطل بها على وسائل الإعلام، وهل نسبت إليه؟ وخصوصاً أن المقربين منه يقولون إنه إسلامي سابق، غير راض ٍعن صورة الإسلاميين في عموم المنطقة.

  • ليلة التغريدات المحذوفة

أعلنت قناة االجزيرة مقتله وقدمت تفاصيل عن العملية بلا أي دليل، وكان ذلك عبر تغريدات نشرتها هي وبعض العاملين الأساسيين فيها، من بينهم عدد من المديرين السابقين، وهذه التغريدات سرعان ما حُذِفت بعد ذلك، لكن صورها ما تزال موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى القنوات الرسمية التي وثقت صور هذه التغريدات، ومن بينها قناة العربية. لماذا حُذفت تلك التغريدات، ولماذا حدث هذا التراجع السريع، هذا هو بالضبط ما ذهب إليه سؤال عدد من الإعلاميين العرب، وترك ثغرة واضحة في إعلام قناة الجزيرة، فكيف يمكن للجزيرة أن تنشر معلومات بهذه التفاصيل وإلامَ استندت؟ وخصوصاً أن قضية الاختفاء تمس دولتين، هما الأكبر في المنطقة. صُوِّرَ الاختفاء كأنه قد حدث داخل القنصلية، بما يعني داخل الحرم القنصلي الذي لا تستطيع الجزيرة الدخول إليه من دون إذن مسبق، بل إن الأغرب من ذلك أنهم نشروا تفاصيلاً لا تخطر في بال، في ما يشبه نوعاً من الدراما لاستثارة العاطفة من جانب، ولتحريك الإعلام العالمي نحو قضية مختلفة، ليست الاختفاء القسري للإعلامي خاشقجي، ولكنها خطوة قطرية نحو تجريم السعودية قبل معرفة الملابسات للحادثة بتاتاً.

  • مَن المطلوب الخاشقجي أم السعودية؟

في ندوة حوارية بثتها قناة (خبر تورك) التركية استضافت عدداً من المتخصصين، وقد أثارت الندوة نقاطاً مهمة، منها (إن إسرائيل عندما أرادت اغتيال الفلسطيني المبحوح في دبي استخدمت جوازات سفر لثلاث دول ولم يدخل أعضاء الفريق الاستخباراتي الإسرائيلي إلى دبي بأسمائهم الحقيقية) وأشارت القناة إلى أن (رجل الأمن التركي عندما يريد تنفيذ مهمة أمنية فإنه لا يمكن أن يستخدم اسمه الشخصي)، فيما تحدّث أحد المتخصصين حول إمكان أن يكون هناك (فخ) في الموضوع، خصوصاً أن الاختفاء لم يترك أي أثر حتى الآن. الأسئلة التي أثيرت في قناة خبر تورك واضحة، مضمونها أن السعودية حتى لو فكرت باستهداف أحد مواطنيها فلن تكون ساذجة بحيث ترسل فريقاً معروفاً وبأسمائهم الحقيقية لتنفيذ مهمة كهذه وفي قنصلية بلادها. في الجانب الآخر كانت قطر في زاوية مختلفة تماماً، فقد جندت عشرات الإعلاميين، وأطلقت الفضاء بشكل واسع، ثم لجأت إلى نشر معلومات مضللة -بحسب برنامج بُثَّ على MBC مصر- وكانت هذه المعلومات باللغة الإنكليزية وعلى مواقع إلكترونية قطرية تبث باللغة الإنكليزية، كان هدفها التحريض ضد السعودية خارج الفضاء العربي، وليس البحث عن الإعلامي المفقود. من ثمَّ فالسؤال هو: هل المطلوب قطرياً وإخوانياً؛ السعودية أم الخاشقجي؟. ومن المستفيد في انتشار الفوضى في السعودية التي ترمي إليها الحملة الإعلامية القطرية الإخوانية بذريعة كشف مصير الخاشقجي؟. وهو اتهام وحكم قطري/ إخواني على السعودية قبل أن يقول المدعي العام التركي كلمته. سيقودنا هذا السؤال إلى سبب خروج القضية عن مسارها الحقيقي، من البحث عن صحافي مختفٍ في أوضاع معقدة، إلى التحريض العلني، خصوصاً أن السعودية تمر بوضع معقد، فهي بين حرب اليمن والإرهاب الداخلي والخطر الإيراني على عموم المنطقة، ثم يأتي الإعلام القطري ليطالب العالم بإيقاف إيصال السلاح إلى السعودية ومحاصرتها، والضغط على الحكومة الحالية التي تعيد بناء المملكة من جديد وفق أسلوب حضاري بعد هيمنة رجال الدين على المشهد هناك منذ عام 1979.

  • خاشقجي والإخوان

اختلف جمال خاشقجي مع ولي العهد السعودي في وجهات النظر، وهي مسألة طبيعية، فقد مُنِع من الكتابة في أثناء وجوده في السعودية، لكن الحكومة لم تمنعه من السفر على الرغم من معرفتها بتلك الاختلافات السياسية، ومع مغادرة خاشقجي السعودية، بقي الإعلام القطري والإخواني يحاول زجه في مواجهة مباشرة مع السعودية، غير أن خاشقجي حافظ على دبلوماسية الاختلاف، ولم يكن قطرياً كما أرادوا، ولم ينحَز إلى ما يريده الإخوان المسلمون (الذين كانوا بدورهم يريدون من جمال خاشقجي أن يكون واجهة لمشروعهم المعادي للسعودية)، وهذا أمر طبيعي في سلوك الإخوان إذ يرون في السعودية مشكلة في وجه مشروعهم، فقد وجدوا في البداية في السلفية هناك عدواً نقيضاً لهم، ثم وجدوا في مشروع ابن سلمان الجديد وانفتاحه على مصر ضربة قاصمة لهم في مصر. ذلك كله يجعلهم يفكرون وفق عقل الإخوان التقليدي في صناعة تحالفاتهم. إذاً لم يكن خاشقجي ذلك الإخواني ولا ذلك القطري الذي يريدون، فهل كان الترويج لمقتله بتلك الطريقة يهدف إلى تضييق الخناق على السعودية بحسب ما يتخيلون.

  • مواقف دولية

من الطبيعي أن تتحدث الدبلوماسية الدولية ضد مسألة الاختفاء، ومن الطبيعي أن تتحدث عن مواقف صارمة في حال ثبوت الرواية القطرية، ولكن مع الإعلان الرسمي السعودي بالنفي القاطع عن قيام السعودية باستهداف مواطنها داخل القنصلية، وبعد تشكيل لجنة التحقيق التركية السعودية، تصبح هذه التهديدات الدبلوماسية موجهة في واقع الأمر إلى تلك الجهة التي نفذت هذه الجريمة (إذا صحت الرواية القطرية) ويصبح أيضاً موقف قطر ضعيفاً جداً وتدخل في دائرة الاتهام، لأن إعلامها استبق كل شيء ونشر وقائع غير مثبتة ثم حذفها، وهو ما سُمِّي ليلة التغريدات المحذوفة. بقي الموقف الأمريكي مرناً مع السعودية، إذ أعلن الرئيس الأمريكي وبحسب BBC عربية 14/10/2018 استمرار بيع السلاح للسعودية. إذاً؛ جاء الموقف الأمريكي مخالفاً للأحلام القطرية التي تريد منع إيصال السلاح إلى السعودية من أجل تغيير المعادلة في حرب اليمن لمصلحة إيران والحوثي، وهو ما يكشف الوجه القطري لهذه اللعبة، إذ يبذل الإعلام القطري جهداً كبيراً منذ أشهر عبر منظمات حقوقية وغيرها، وذلك قبل حادثة خاشقجي ويحاول التحريض ضد السعودية، من أجل إيقاف صفقات السلاح إليها، ما يعني أن المحاولة القطرية لخنق السعودية ليست جديدة، وهو ما يترك مزيداً من الأسئلة، عن دوافع الاختفاء.

  • فتش عن إيران

في علم الجريمة هناك مقولة تقول (فتش عن المستفيد الأول)، وفي قضية الصحافي جمال خاشقجي لو قلنا إن السعودية هي المستفيد من تغييبه فلا يمكن أن تفعل هذه الفعلة في قنصلية من قنصلياتها على أرض دولة بينها وبين السعودية خلافات معروفة؛ لكن لماذا نتناسى إيران وهي العدو الأول للسعودية والعرب؟. منذ ثورة الخميني عَمِلت بجهدها كله على زعزعة أمن السعودية مستغلة كل ما يمكن استغلاله لذلك؛ إنْ من خلال المكون الشيعي الموجود في المملكة، أو حتى في مواسم الحج من دون أن ترعى لتلك الشعيرة حُرمة مقابل مصالحها الاستراتيجية في تصوير المملكة ضد الإسلام. أما العلاقة ما بين السعودية وتركيا فإنها تاريخية مميزة، ومستقبل هذه العلاقات هو اليوم على صفيح ساخن، وتهتم إيران بضرب قطبي السُنة (السعودية/ تركيا) لإضعافهما حتى يسهل عليها المرور من ضعفهما. فالسعودية هي الدولة العربية الأكثر تأثيراً في المحيط العربي، وتركيا دولة إقليمية تقبع على جغرافيا سياسية مهمة للشرق والغرب والعرب أيضاً، ولكن إيران خلف هذه الجغرافيا السعودية والتركية، تلك الدولة التي أضرت بالشرق كله، فمسألة تحويل قطر والإخوان المسلمين قضية صحافي وإنسان إلى قضية تستهدف صناعة صراع سعودي تركي، أو لتطويق السعودية وإجهاض مشروعها النهضوي مسألة خطرة جداً ومضرة بتركيا والسعودية وعموم المنطقة، ولا تخدم سوى إيران التي تريد التوسع في المنطقة على حساب الجميع. قضية خاشقجي ليست قضية سهلة، تذكرنا بقضايا الاغتيال السياسي المعقدة التي تدار بعناية فائقة، وتهدف إلى خلق صراعات سياسية، يستفيد منها القاتل الحقيقي، لذلك هي قد تبقى إحدى الألغاز المحيرة. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى