fbpx

العوامل الأساسية للاختراقات الأمنية في مناطق سيطرة المعارضة السورية

الكاتب: عبد الله عساف قدم حزب البعث السوري نفسه أنه (الثورة) وأرسى في الأذهان فكرة تخوين كل محاولة لتشكيل أي حزب سياسي آخر، وأن أي محاولة فكرية مخالفة له إنما تستوجب أشد العقاب، وبهذه المعادلة المعقدة، نجح النظام البعثي في سرقة روح الثورة من الشعب السوري عقوداً طويلة، فقتل وشرد كل مخالفيه، واستمر الحال حتى أبدع السوريون، إذ استنهضوا روح الثورة من أعماقهم، وأرادوها سلمية. فالثورة السلمية في سوريا عملت على وحدة الشعب بكامل أطيافه وطوائفه، غير أن سلطة المال والجاه والقبيلة، وتأثيرات الفكر الإسلامي المتطرف، كلها عوامل ساهمت في حرف مسيرة الثورة، فاحتكمت إلى السلاح الذي كان كفيلاً بتمزيق وحدة الثورة، وبروز المتناقضات الداخلية، التي ما تزال تتجسد في مشاهد دموية، بين قتل وخطف وسلب داخل مناطق سيطرة المعارضة.

  • الفاعل المجهول

تعاد الى الأذهان حكاية الفلم المصري الشهير (وقيدت ضد مجهول) للفنان محمود ياسين الذي ترك بصمة مهمة في السينما العربية، فالمواطن الذي هو بدور الحارس في الفيلم، وعلى الرغم من أنه يحمل بندقيته ويحرص على الانتباه طوال الوقت، لكنه لا ينجح في معرفة ما يدور حوله. في ما يتعلق بالفوضى الأمنية في مناطق المعارضة، المعادلة الأساسية للأمن تتحقق هناك بوجود قدر من القانون غير المتاح، يحول دون حجم الاختراقات الأمنية، غير أن هناك عوامل أساسية أخرى، يمكن أن تكون هي الأرضية الأساسية المساعدة في تكوين ظاهرة الانفلات، أبرزها طبيعة تكوين النظام السوري، ثم طبيعة الظاهرة الاجتماعية التي خلفها هذا النظام طوال عقود التي ليست فريدة في سوريا وحدها، لأن النظم الحزبية المستبدة، إنما تبدأ مسيرتها أصلاً على قاعدة نخبوية معينة، وبمعزل عن طبيعة فكر تلك الأحزاب، فالنتائج النهائية في تكوين (مجتمع الدولة) أو الطبقة الحاكمة مشتركة، تتوافق فيها أغلب النظم المستبدة. ففي الجانب الفكري، تتمثل وظيفة الحزب الحاكم لدى أي مجتمع، في جذب أكبر قطاع من المثقفين وأصحاب المصالح ليجري تحويلهم إلى (قبيلة كبيرة) خاصة بالحاكم، وستكون وظيفة هذه القبيلة الحاكمة إرساء قواعد حزبية متنوعة، تبدأ هذه القواعد لدى طبقة المال والجاه، إذ يتشكل منها المستوى القيادي الأول، ثم يأتي المستوى الثاني الذي هو مستوى النخبة الثقافية والأكاديمية الذين تصبح وظيفتهم صناعة أمرين؛ الإعلام والبناء الحزبي الداخلي، لأن الإعلام سيكون بمنزلة رسالة إعلامية عامة، يتلقفها الداخل والخارج، بينما البناء الحزبي الداخلي هو أمر معقد تماماً، لأن وظيفة النخبة الحزبية المسيطرة، هي إعادة تشكيل الوعي الداخلي لأعضاء الحزب، من خلال إرساء فكرة التمايز للحزب الحاكم في داخل عقول الشباب، ثم إرساء حالة التمايز والفردانية في شكل قيادته ونوعها، وأمام هذه الصورة الحزبية التي تعدها النخبة الحاكمة، يصبح لدى الأفراد الحزبيين معتقد في التمايز مبالغٌ فيه، درجة أن عضو الحزب يصل إلى مرحلة لا يصبح فيها قادراً على استيعاب أي مشهد مخالف للحزب، ويبرز ذلك من خلال استمرار الجلسات الحزبية التي تؤدي دور التلقين بشكل جيد، ما يجعل المنتسب إلى الحزب محض وعاء فارغ لا يحمل سوى كومة التعليمات والإرشادات اليومية، وهكذا يتوهم الحزبي أنه بات الحارس الأول لسلامة المجتمع، ويصبح مفهوم الخيانة لديه يعني كل ما هو دون هذا الحزب، ومن الممكن هنا أن يتخلى عن أقرب المقربين إليه أمام عقدة الولاء للزعيم والحزب. هنا تأتي صناعة الفاعل الأول في المشهد السوري، وهو ذلك الحزبي الغارق في أوهام البعث الذي يصبح المجهول والقاتل الذي لا يكترث لحرمة الأبرياء الذي نشأ في تلك البيئة، ولم يتعلم تجاوزها، ولم يستطع التواصل مع الآخرين ذوي الفكر المختلف، حتى يتيح لعقله إمكان صناعة السؤال، وهو الذي لا يحدث في ظل بيئة استبدادية، يصبح فيه عنصر الأمان الأوحد، هو ذلك الإصغاء اللامحدود للثقافة الحزبية الضيقة، وهي الثقافة التي أنتجت أطيافاً عدة، بمن فيهم مجموعة ليست قليلة من المشايخ والدعاة. لذلك فأول ما تفعله النظم المستبدة التي صمدت طويلاً -إضافة إلى الترهيب- وضع عقول نخبة معينة في داخل الصندوق، وهذه النخبة يجري عزلها عن محيطها الثقافي، ويُدخَل العامل الأمني والبوليسي في تكوينها، حتى تتحول مع الأيام إلى قبيلة الحاكم، ومؤسسة الحاكم، ما يعني مع الأيام أن أي عضو يدخل في المؤسسة الحزبية للسلطة سوف يتحول إلى مراقب لكامل البيئة المحيطة به، وسوف يرى ويسمع ويتكلم وفق عقل وسمع النظام الذي يعمل على جعله يفقد حتى انتماءه العائلي والأُسريّ، أمام قدسية الزعيم والحزب المسيطر عليه.

  • دور الفصائل الإسلامية

الأزمة الأمنية الثانية في المشهد السوري هي عامل الحركات الإسلامية المتناقضة في تكوينها، بالتالي فإن الإسلام السياسي الذي ظهر في سوريا -وبمعزل عن نظرية المؤامرة والتبعية- هو في الأصل عدو نفسه، تماماً كما هو المشهد الأفغاني، أو أي مشهد فوضوي آخر، ومردّ ذلك يتمثل في تكوين الانتماء إلى الإسلام السياسي المتناقض. جوهر الإسلام السياسي في سوريا وغيرها، لا يختلف من حيث الشكل عن أي بنية مستبدة، فهو منذ التكوين يعيش هاجس التمايز عن النظم الحاكمة، لكنه ينطلق من الرؤية ذاتها والمشهد الذي تقوم عليه الحكومات المستبدة، فهو عندما يتعامل مع هذه النظم بوصفها نظماً مستبدة، لكنه لا يمارس بديلاً حضارياً يمكنه أن يدرك من خلاله أبسط مفهومات الديمقراطية، فمسألة تعدد المشارب الفكرية للإسلاميين، تفقدهم القدرة على قبول بعضهم، وهذه المعادلة وحدها تخلق نوعاً من الصراع الدموي، المعلن والخفي، كان هذا الصراع واضحاً بشكل أكبر في المشهد السوري، فالقاتل، وزارع العبوات القاتلة كان جزءاً من الصراع الداخلي بين الإسلاميين، وهو إحدى الصور التي يجري كشفها والتعبير عنها لاحقاً عندما تتحول العملية إلى اقتتال معلن. فمسألة ممارسة الإسلاميين للظلم والاضطهاد، ومسألة تغييب العدالة (بين بعضهم ومع الآخرين) تولد الرغبة في الانتقام، وتغذية الصراعات الداخلية، وتخلق حالة من الانقسام الشعبي، وفي هذه الصورة السوداوية من الاضطهاد، ونتيجة حالة القهر العام المحيط بالأفراد، ونتيجة عدم وجود أي أفق للعدالة، فمن الطبيعي أن تنشط ظاهرة الانتقام الفردي أو العشائري، ما يجعل عموم المشهد مضطرباً مجهول الواقع والأفق. لذلك وحال وجود حركة إسلامية في المشهد السوري، فنحن أمام نوع خفي من الصراع، وهو أول ما يظهر في الفكر الخفي لهذه الحركات، ويتمثل في فكرة الجنة والنار، أو الحلال والحرام، إذ يتخلى الإسلاميون عن أبسط الواجبات الإنسانية، أو يضعونها خلف ظهورهم، أو حتى تصبح لديهم مسألة التضحية بالإنسان المدني ليست ذات قيمة، أمام نظريات تحقيق الرضى الإلهي. فما يراه الإسلاميون أولاً، هو ذلك الاعتقاد بكيفية الاجتهاد في إرضاء الله، وفي هذا الميزان لا يحضر في أذهان الإسلاميين سوى ما هو موجود في بواطن الكتب والمؤلفات القديمة، وهو الأمر الذي جعل مئات العلماء الذين جاؤوا قبل مئات السنين يصبحون شركاء في إدارة المشهد السوري، ويصبحون الحكم الفصل في المشهد الداخلي، يأتي حضورهم من خلال مسمى (الشرعي) وهذا الشرعي هو الذي يحلل ويحرم ويقتل ويعفو بناء على ما قيل منذ مئات السنين، فتحصل مقارنة الوقائع الحالية بما حدث من وقائع في عصر لا يشبه عصرنا، وهنا يعمل كل (شرعي) على اختيار النصوص التي توافق هواه، وتراهم يتقاتلون، وكل واحد يحلل قتل الآخر، وعندما يتعبون من القتال، يبحثون عن نصوص جديدة تتيح لهم الصلح من جديد.

  • عوامل الاختراقات

الجاسوسية بشقيها الاحترافي والثانوي حاضرة في المشهد السوري، وهناك وقائع كثيرة في الجانب الاحترافي مارسها النظام بعناية، مثل حصول الانشقاقات والتراجع عنها ومثل إنتاج فصائل بصبغة إسلامية بغية منع قيام مشروع وطني بديل لنظام الأسد، ولا أحد يستطيع أن ينفي أن بعضها ما يزال موجوداً بمسميات جهادية، علاوة على استقطاب التيارات الجهادية من دول مختلفة، وهو ما أدى إلى حالة قلق عالمي وتدخلات دولية، لكن العنصر الأبرز على الأرض، هو ذلك العامل الثانوي الذي بات يتزايد مؤخراً وهو يعتمد على أمور عدة، من بينها الارتباط بالنظام والاحتماء بالفصائل المتناحرة، وهو من أبرز التعقيدات الداخلية. العامل الثانوي يبرز أيضاً في استغلال النظام لمسائل مؤثرة في حياة المجتمع السوري وبنيته وتركيبته الذي لم تؤذِه الفكرة السلفية فحسب، لكن حتى تلك المدرسة الصوفية بانقساماتها، وعبثها الفكري، إذ جعلته أسير تقاليد وعادات ليست أصيلة، منها قدسية (مسائل الشرف،) على حساب المنطق بعمومه، فقد استغل النظام حكايا الشرف بشكل واسع، وهناك آلاف القصص التي تتعذر الإشارة إليها، انتهت بخيانات لقادة فصائل بحالها، نتيجة خضوعهم لابتزاز النظام، فمن أجل المحافظة على ما يرونه عفة بعض الفتيات، أو خوفاً من انكشاف فضائحهم الشخصية كانت تحدث مقايضات ميدانية بين النظام وتلك الفصائل تتعلق بالدم وأرواح البشر. هناك مسألة إضافية تتعلق ببعض ممن لديهم مصالح تحت سيطرة النظام، فبعضهم لجأ إلى فتح خطوط اتصال حديثة مع النظام، وهو حال بعض الشبكات التي جرى القبض عليها، إذ تبين أنها تواصلت مع النظام في الفترات الأخيرة، وهو ما يمكن تفسيره علمياً بحالة التمسك بأي نوع من الحطام الأقوى لدى غرق السفينة، وبهذا المنطق استغل النظام عدداً من الأفراد الراغبين في العودة إلى أماكن سيطرته باعتبار أن مصالحهم المعيشية هناك، فهؤلاء أصبحوا ورقة ابتزاز دائمة.

  • خاتمة

نجح حزب البعث خلال عشرات السنين في صناعة قبيلة كبيرة يحتمي خلفها، ووظف هذه القبيلة في كامل مناحي الحياة بغية استمرار وجوده، واستمرار بقائه، وحتى في أوج انهيار هذا النظام، نجح في حشد المدرسة الصوفية، بذريعة خطر السلفية، واستعان بالإسلاميين ضد الجيش الحر، وعزز فكرة إنشاء الفصائل التكفيرية مثل داعش وأخواتها لكي يسوّغ استمرار وجوده، بينما ذهب التيار الإسلامي إلى البحث في بطون الكتب عن الاختلافات، وأخذ ينبش فيها بغية تعزيز منهج الاختلاف لديه، وهو ما دفع البلاد إلى هذه الفوضى العارمة التي دمرت حلم السوريين بعدالة حقيقية وبثورة ناجحة. حزب البعث جعل من نفسه الثورة، فقتل روحها في الشعب السوري، بينما الفصائل الإسلامية اعتبرت نفسها الحاكمة باسم السماء فدفعت ما تبقى نحو الهاوية. بكل تأكيد لا يمكن نسيان العامل الإجرامي الذي يمكن أن يتنامى في ظل الفوضى الأمنية، لكن المسألة الأساسية هي في وجود نظام دموي، ووجود فصائل عززت لغة الدم وأتاحت انتشار هذه الفوضى. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى