fbpx

جناة أم ضحايا؟

لم تقترف الطفلة ديانا أبو حسون ذنباً تقتل لأجله سوى أن والدها شعر بغضب تجاه غيابها بضع ساعات عن المدرسة؛ فكان هذا دليله على ضرورة تنظيف شرفه بقتلها. هل يمكن أن نسمي ما فعله والد ديانا (جريمة شرف)؟ ثم ما هي أصلا جريمة الشرف؟ أيعقل أن يخطط المصاب بالغضب -تجاه عار لحق به كما يدعي- للتظاهر أمام كادر تدريسي بأنه هادئ ولا تنتابه دوافع لإيذاء طفلة في السادسة عشرة من عمرها؛ فيستدرجها إلى حتفها من دون أن يشك الآخرون في نيته تجاهها؟ هل هذه حقاً (جريمة شرف) مع أن من الشروط التي تستدعي تخفيف العقوبة مداهمة واقعة الزنى وتنفيذ الجريمة لحظياً؟ أم تخلف عقلي نتيجة غياب الوعي؟. ربما يجب الوقوف على حقائق الأمور والتفكر فيها لنصل إلى مفهوم واضح للشرف أولاً؛ ومن ثم إلى التخلص من مسوغات إزهاق أرواح لا حول لها ولا قوة. يقول تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور:4). هكذا حكم الله تعالى على الذين يتهمون النساء في شرفهن؛ فكيف لمجتمع أن يجزم بخروج إحداهن عن العفة والطهارة ويسمح لنفسه بقتلها ويظن أنه الوصي على شرفها؛ في ما لو تماشينا مع العرف الاجتماعي القائل بأن الشرف هو الجسد وحسب.

  • إن أتينا على معنى المحصنات لغوياً لرأينا أنه يعني العفيفات الحرائر البالغات[1]، ويرمون المحصنات ﴿٤ النور﴾يقذفون العفيفات بالزّنى، والمحصنات: العفيفات المنيعات.

إن كان الله نفسه يصف النساء بداية بالمحصنات، المنيعات الحرائر؛ كيف لبشر أن يحكم باختراق هذه المنعة من دون تأكد، وكيف له أن يحكم بكونه الوصي عليهن لينفذ أحكاماً صنعها بنفسه ولم يرجع -حتى في حالة الزنى المثبت- إلى حكم الله تعالى؟ كلنا يعلم أنه كي يكون الزنى مثبتاً لا بد من أربعة شهود لا ينقصون، يشهدون بأنهم (رأوا الميل في المكحلة) فإن شهد ثلاثة منهم فقط أقيم حد القذف عليهم لا على المتهمين. (وأوجب الله على القاذف إذا لم يُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام : أحدها: أن يجلد ثمانين جلدة، الثاني: أن تُردَّ شهادته أبداً، الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس)[2]. أَوَلَا يتضح من الإصرار على أربعة شهود لا ينقصون أن الله أمركم بالتروي قبل هذا القذف والاتهام الشنيع؟ في مجتمعنا الذي يخول الرجل السلطة المطلقة ويدعي الحكم بشرائع الله ينصب هذا الرجل نفسه حاكما مطلقاً لا يحتاج حتى إلى العودة إلى تلك الشرائع، فيتهم ويحاكم وينفذ الحكم بنفسه؛ ثم تبرئه المحكمة بوصف ما حصل جريمة شرف. ألا يحق لنا أن نتوقف قليلاً عند مفهوم الشرف؟ الشرف لغوياً: الحَسَبُ بالآباء، شَرُفَ يَشْرُفُ شَرَفاً وشُرْفَةً وشَرافةً، فهو شريفٌ، والجمع أَشْرافٌ. غيره: والشَّرَفُ والمَجْدُ لا يكونانِ إلا بالآباء. الشَّرَفُ: العلو والمكان العالي. الشَّرَفُ، محرَّكةً: العُلُوُّ، والمكانُ العالي، والمَجْدُ، أو لا يكونُ إلاَّ بالآباءِ، أو عُلُوُّ الحَسَبِ.[3] من يحق له القرار أن شرف الناس ينحصر في ممارسة الجنس، ومن الذي نحى الأخلاق والحسب والنسب جانباً ليوجه أبصارنا وتفكيرنا ومنطقنا إلى الجسد وحده ليشغل عالمنا عن جرائم أكثر أهمية وانتهاكات تحصل في حقنا، لنبقى أسرى فكرة الجسد؛ تقوم الحروب لأجله وتقتل النساء لأجله، وتحصل القطيعة بين الأرحام أيضاً لأجله. نفكر بالدفاع عن هذا الشرف المتجسد في جسد المرأة، فنمنع النساء من الذهاب إلى طبيب ذكر، ونمنعهن من الخروج، والعمل والاحتكاك بالآخر خشية أن يُمَس شرفنا ونحرم مجتمعاتنا من نصف تعداد عقولها. هل يستطيع هذا الحصار يستطيع أن يمنع الأنثى من فعل ما تريد كما يقول المثل (وإن من خلف سبعة أبواب موصدة)؟ هل المدان في هذا الفعل حين يجري هو المرأة وحسب؟ هل تستطيع المرأة أن تحقق جريمة زنى كاملة وحدها من دون شريك؟ لماذا لا تتوجه أنظار المجتمع أبداً إلى هذا الشريك ولا تدينه على الإطلاق؟ بل ربما يُنظر إليه بتفاخر بوصفه قد عبّر عن فحولته وإن كان الفعل اغتصاباً؟ حتى في الاغتصاب تذهب المرأة ضحية الشرف ويسوّغ المجتمع للرجل فعلته بأنه كائن مسكون بشهوته بالفطرة؛ لا حيلة له في ما اقترف. تلك كلها أقاويل وتسويغات اجتماعية فحسب؛ لكننا نظن أن الوقت قد حان لنسمي الأشياء بمسمياتها حقاً، فقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق جريمة وكبيرة يحاسب عليها الدين قبل القانون -وإن كان من المآخذ الكبرى على قانون الأحوال الشخصية التعاطف مع ما يسمى جريمة شرف- فواجب القانون حماية أفراد المجتمع بوصفهم سواسية ذكوراً كانوا أم إناثاً، لا يحق لأحد الأفراد محاسبة فرد آخر على أي جريمة كانت في وجود دولة تتولى فيها المحاكم البحث والتقصي والعقاب. آن لنا أن نعطي القانون حقه سواء أردناه قانوناً دينياً أم مدنياً؛ والمفارقة أن القانون الديني لا يسوّغ جريمة الشرف بينما قوانين بلداننا تبيحها وتجد المسوغات والأعذار المخففة للجاني كي لا يتعرض للعقوبة الحقيقية لفعل القتل. أما في ما يخص حصر الشرف في جسد المرأة فتلك حكاية أخرى؛ ذهب المجتمع إلى تضخيمها ليحيد بنا عن المفهوم الأصلي للشرف. تجمع المجتمعات العربية على حصر الشرف في جسد الأنثى من دون الذكر، وترى الدفاع عن شرفها في هذه التفصيلة فحسب. يخرجون على تعريفات الشرف التي وردت في المعاجم اللغوية وفي تاريخ أجدادهم فقط للإعلاء من سلطة الذكورة، والمحافظة على المكتسبات التي حصل عليها الذكر ضمن تاريخ طويل من تأويل النص على هواهم، أو حتى من محاولات إخفاء التاريخ وطمسه منذ العصر الأمومي وحتى اليوم. أياً يكن؛ ريما علينا أن نقف قليلاً عند ضرورة ابتداء الإصلاح من الاجتماعي أولاً، فما دام المجتمع فاسداً يبدأ فيه الاستبداد والتسلط من أصغر الخلايا لا يمكن لنا أن نأمل في إصلاح الخلايا والمؤسسات الكبرى، وحدة المجتمع هي الفرد الذي عليه أن يكون نواة صالحة سواء كان هذا الفرد ذكراً أم أنثى. جريمة الشرف أمر معقد اجتماعياً، لأنه يتبع العادات والتقاليد والمجتمع وتدرج السلطة فيه، وربما هذا ما جرى الحديث عنه مراراً في الدراسات والأبحاث. ما يغفل الباحثون عنه غالباً هو معالجة الأمر إنسانياً أولاً؛ أوَليست الأنثى إنساناً يستطيع بعقله تحديد الخطأ والصواب؟ ألا تستطيع أن تقرر ما لها وما عليها؟ ألا تستطيع أن تختار إن كانت تريد شرفها في جسدها أو في عقلها؟ الإنسانية لا تتجزأ؛ إما أنها إنسان له حقوق وواجبات، أو أنها ليست كذلك ولربما حينها علينا أن نبحث لأنفسنا عن جنس جديد غير بني البشر. وبافتراض أننا كائنات بشرية وهذا ما صُنفنا به حتى الآن ربما علينا أن نبحث عن طريقة نستطيع فيها الوصول إلى إقناع الطرف الآخر أن حتى طهارة الجسد هي ملك لنا لا له أولاً. وأن طهارة الجسد لا تتمثل أيضاً في عدم التواصل مع الآخر. بالعودة إلى السؤال السابق: هل تمارس الأنثى الجسد وحدها أم أن هناك شريكاً لها في هذا الفعل؟ لماذا لا نحاسب الطرفين بالطريقة نفسها؟ ولماذا علينا أن ندين طرفاً ونصفق لآخر ما دام الطرفان إنساناً يحمل الوعي ذاته والعقل ذاته؟ ليس السؤال هنا لتوجيه التهمة إلى الطرف الآخر وإنما القصد منه نزع التهمة عن الطرف الأول بداية، ثم توسيع دائرة الإسقاط لنصل إلى أن ممارسة الجسد ضمن ضوابط محددة حتى وإن لم يرضَ عنها الأهل لا تقع في باب الرذيلة. من شروط ممارسة الجنس حلالاً الزواج، ربما علينا أولاً أن نجرب تفهم المقبل على هذا الزواج وعدم وضع العقبات في طريقه ما دام يرى الآخر المقبل معه شريكاً لحياته. قال الرسول (من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ولو بخاتم من حديد). ألا يقع اللوم حين نطلب المستحيلات من اثنين في بداية حياتهما ليحصلا على إذن لإتمام هذا الحلال؟ إن وقف الأهل عقبة في طريق حب أو تفاهم ما وتمرد العاشقان وتزوجا؛ ألا يكون الأهل هم المسبب في هذا التمرد الذي ينتهي إلى جريمة الشرف؟ إذاً؛ إن افترضنا أن جريمة الشرف تقع رداً على الزنى فقد رأينا أن الله ورسوله قد دللا كثيراً على عدم إمكان إثبات وقوع هذا الزنى، وأن الاتهام به يقع في باب القذف. وإن افترضنا أنها تحصل نتيجة خروج على عادات وتقاليد وتفاصيل اجتماعية عدة؛ فهي أيضاً جريمة يتحمل الأهل والمجتمع عبئها لا الأنثى. وإن افترضنا وجود حادثة زنى تامة مشهودة مثبتة، أو زواج غير متفق عليه اجتماعياً، أو أي حالة خروج على طاعة الأعراف فهذا لا يسوغ إطلاقاً تنصيب الآخر نفسه حاكماً يحاكم الضحية وينفذ الحكم بها. ما دمنا نسعى للوصول إلى دولة القانون فهذا يجعلنا نقف أمام أنفسنا قليلاً لنرى أننا جميعاً تحت حكمه وقراره، ويمكننا أن نلجأ إليه في حال وقع علينا اعتداء. أما النقطة الأهم في ما يجب معالجته فهي قانون الأحوال الشخصية في بلادنا الذي يستند في بعض الأمور إلى شرع الله، ويخرج على الشرع حين يحلو له، فتسويغ جريمة الشرف وإيجاد الأعذار المخففة لها يقع في باب الخروج على الشريعة إن احتكمنا إليها. ويقع في باب الخروج على الإنسانية إن احتكمنا إليها أيضاً. يبقى مصير نسوة هذه البلدان معلقاً بلحظة خروج على السيطرة عند الذكر، أو ربما سوء فهم، أو ربما حتى في حالات كيدية محضة ينتقم فيها الذكر من الأنثى ويدعي أنها جريمة شرف بلا أي أدلة. يطول الأمر ويحتاج إلى كثير من المعالجة النفسية والقانونية والدينية، لنصل إلى درجة من الوعي تجعلنا نقف أمام ذواتنا قبل أن نخسر بناتنا وأمهاتنا وزوجاتنا نتيجة لحظة غضب. ليس المطلوب من المرأة ألا تحيا كي نوقف جرائم الشرف، المطلوب ضبط أعصاب من يدعون الرجولة حين ينهالون بقواهم كلها على كائن يعرفون حق المعرفة أنه أضعف جسدياً منهم فينتقمون منه لذكورتهم التي ليست شرعاً ولا قانوناً. وحده غياب القانون يسمح بجرائم الشرف؛ لذلك تحتم علينا المطالبة بتعديلات تحترم الأنثى والذكر على حد سواء. [1] المعجم الوسيط: https://goo.gl/fKAwyE [2] https://goo.gl/PkagAT [3] https://goo.gl/mhZH6m مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى