fbpx

داعش التي لا تموت

يبدو أن تاريخ 23 آذار/مارس 2019 هو تاريخ وهمي بما يتعلّق بالقضاء على “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، الذي يطلق عليه اختصاراً اسم “داعش”. ففي هذا التاريخ، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” سقوط آخر جيبٍ لداعش شرقي الفرات في منطقة “الباغوز”. هذا الإعلان اعتمد عليه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب كمبررٍ لسحب قواته من سوريا، بعد انتهاء مهامها في القضاء على داعش.

لكن الحقيقة غير ذلك، فداعش انهارت كحالة سيطرةٍ على أرضٍ محدّدة اسمتها “دولة الخلافة”، ولكنها لم تنته كحالة فكرية وسياسية وعسكرية، فالشروط التي أوجدت داعش لا تزال قائمةً في الواقع، ونقصد استمرار الصراع في سوريا وعليها. وهذا ما تبيّن لاحقاً بأن داعش إنما غيّرت من أسلوب عملياتها وتواجدها.

لقد استطاع تنظيم داعش أن ينقل قسماً من كوادره إلى باديتي سوريا والعراق لإعادة تنظيم صفوفه، والبدء بعمليات جديدة وفق استراتيجية عسكرية مختلفة. وقد شهدت بادية الشام هجماتٍ متعددةً لهذا التنظيم ضدّ قوات النظام السوري وحلفائه من الميليشيات الأجنبية قرب الضفّة الغربية لنهر الفرات في مناطق البوكمال والميادين، وكذلك في عمق البادية الشامية قرب السخنة وتدمر.

كذلك تقوم خلايا نائمة تابعة لداعش بعمليات خاطفة ضدّ قوات سوريا الديمقراطية، وهذا دليل كافٍ على أنّ سقوط معقل داعش الأخير في الباغوز لم يعن نهاية التنظيم وإبادته، بل انتقال التنظيم إلى حالةٍ جديدة من التموضع وعمليات الكرّ والفرّ حسب مفهوم حرب العصابات.

إذاً يمكننا اعتبار إعلان قسد بالقضاء على تنظيم الدولة الاسلامية بأنه اعلانٌ أتى استجابة لترامب وخدمةً لسياسته التي تقول بإعادة القوات الأمريكية إلى بلادها بعد سحق الدولة الاسلامية داعش، وتنفيذاً لوعوده الانتخابية.

ولكن الشروط التي سمحت بتواجد داعش أو غيرها من التنظيمات الجهادية والتكفيرية لا تزال موجودةً، وهذا يتطلب سياسة أكثر وضوحاً وجدّية من الولايات المتحدة حيال ملف الصراع في هذه المنطقة الهامة من العالم. فإذا كانت الولايات المتحدة جادةً في القضاء على داعش وشبيهاتها، ينبغي عليها رسم استراتيجية متكاملة لحلّ الصراع السوري، وفق فرض تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة بهذا الصراع على الجهات المتورطة فيه. مما يسمح بانتقال سياسي جدّي في البلاد، وبالتالي مجيء حكومة تمثّل كل السوريين، تستطيع طي ملف الحرب، والبدء بإعادة البلاد إلى السلام والإعمار.

إن العمليات العسكرية التي تُنسب لداعش خلال هذه المرحلة تكشف عن غموضٍ، ينبغي تسليط الضوء عليه، فالعمليات العسكرية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية في شرقي الفرات تخدم عملياً النظام السوري وحلفائه الآخرين في غرب الفرات، ولكن قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية في غرب الفرات وفي عمق البادية السورية تتلقى هي الأخرى هجمات بطريقة حرب العصابات.

هذه الحال تدفع للقول أن تنظيم داعش لم يتم القضاء عليه، وأن العمليات شرقي الفرات أو غرب الفرات تخدم من يقف خلف قيادة هذا التنظيم في السرّ. ويبدو أن هناك أكثر من جهة تسيطر على هذا التنظيم أو تقف خلف الجهات الفاعلة التي تدّعي أنها داعش.

ولكن تبقى هناك أسئلةٌ مطروحةٌ على الطاولة، وهي: متى تموت داعش؟ وكيف يمكن تجفيف وجودها على الأرض السورية؟.

هذه الأسئلة وغيرها يمكن الإجابة عليها ببساطة، وتتمثّل في الانتهاء من الشروط الموضوعية التي أوجدت داعش. وتحديداً حالة الحرب الدائرة في البلاد، واستمرار الخلخلة الأمنية الناتجة عن غياب الاستقرار السياسي، وضرورة الانتقال السياسي وفق القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع في سوريا.

إن سياسية استخدام القوة المفرطة من قبل النظام السوري لمواجهة حركة الثورة السورية، ولمواجهة الاحتجاجات المطالبة بالتغيير السياسي في البلاد، هو من أوجد الخلخلة الأمنية، وهيّأ الفرصة لنشاط التنظيمات الإرهابية ذات الايديولوجيا التكفيرية والجهادية. ويبدو أن هذه الحالة ستستمر ما دام هناك غياب لتوافق دولي يلبي مصلحة الشعب السوري في الحصول على حرياته وحقه في بناء دولته الديمقراطية التعددية. ولكن لا ينبغي السكوت عن استمرار هذه الحالة في سوريا، لأن هذه الظاهرة يمكن أن تتوسع دائرة فعلها في الإقليم كله، ما دامت الظروف لا تسمح بحلٍ سياسي حقيقي للصراع السوري.

إن استمرار داعش في عملياتها العسكرية في مناطق تهيمن عليها قوى عسكرية مختلفة الأهداف، لا يمكن تفسيره إلّا أن هناك قوى إقليمية ودولية تستثمر في هذا التنظيم المتعدد. وهناك اعتقاد عميق بأن إيران تستثمر في جزءٍ من هذا التنظيم. كما أن هناك جهات دولية أخرى تفعل ذلك في أفرعٍ أخرى له.

إن القول بالقضاء على داعش مع نهاية “دولة الخلافة” كان قولاً يخدم أجندةً سياسيةً في تلك اللحظة، ولكنه لا يعبّر عن نهاية حقيقية لهذا التنظيم.

وهنا يمكن طرح السؤال التالي:

ما الذي يمنع الإدارة الأمريكية من وضع استراتيجية حقيقية للقضاء على خطر هذا التنظيم الإرهابي وغيره من التنظيمات الشبيهة له؟ فإذا كانت الولايات المتحدة معنيةً بتحقيق هذا الهدف، فلماذا لا تمارس نفوذها الكبير في فرض الانتقال السياسي في سوريا بموجب بيان جنيف1 والقرار 2254؟. عدم فعل الولايات المتحدة ذلك يعني للآخرين أنها تستفيد من هذه الفوضى، وتستثمر فيها، ويعني أن داعش لن تموت قريباً، وأن أهم شروط موتها هو الانتقال السياسي في سوريا، والذي يعني استقراراً، لا يسمح بتوفير أي مناخ للإرهابيين.

هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى