fbpx

العراق عندما يبحث عن هويته الخاصة

بعد ان انتهت المعركة الرسمية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وإعلان الحكومة العراقية انتصارها على التنظيم الذي سيطر على ثلث مساحة البلاد لمدة ثلاثة سنوات وفتك بأهاليها بدأ البلد الغني بالنفط والفقير بالخدمات في البحث عن إعادة تكوين صورته الخاصة بعيداً عن تدخلات لا تتوقف بحقه. الجرح الداخلي الذي مر به البلد جر معه وبسببه تدخلات إضافية أفقدت البلد الذي لا يكاد تتماسك خريطته قراره السيادي، ودفعه ليعاني القلق السياسي نتيجة اضطراره للبحث عن تقديم حلول وسطية قد لا تناسب مصلحته الوطنية لكل قضية قد تؤثر على علاقته مع الأطراف ذات التدخل الرئيسي في شؤونها المحلية. وعلى الرغم إن التدخلات في الشأن العراقي هي واسعة ومتعددة إلا إن القوة الأكثر فاعلية في هذه التدخلات تختزل في دولتين هما إيران وأمريكا، اللتان تعيشان حالياً في صراع وتنافس في جميع دول المنطقة بدأ بالعراق، مروراً بسورية، وليس انتهاءً باليمن. العراق الذي كان يحكمه حزب البعث العربي، الذي كان ينفخ في الروح القومية لسنوات كما هو حال كل الأحزاب القومية التي تعتمد على القمع في السيطرة تحول الى بلد تديره حركات إسلامية ذات نفس موال للتيار الشيعي السياسي! وفقد طابعه القومي، ولم يستفد من طابع الحكم الذي جلبته الولايات المتحدة لها بعد إسقاطها لحكم الديكتاتور صدام حسين في عام 2003، الذي من المفترض إنه نظام حكم أكثر نموذجية، وذو طابع مدني، وعلماني، ولا مركزي، نتيجة انتشار رائحة الطائفية، وظهور الجهات التابعة لدول إقليمية تدير مصالح تلك الدول على حساب مصلحتها الوطنية، وحتى بسبب السوء في إدارة الولايات المتحدة صاحبة المشروع المذكور لبلد سيطرة عليه تحت شعار كاذب هو السلاح النووي. أن طبيعة العلاقة القوية بين بغداد وطهران، والمتداخلة بين بغداد وواشنطن، يحتم عليها أن تبحث عن مسارات صعبة في السياسية والاقتصاد لتحقيق التوازن بينها وبينهما. تخشى بغداد الانجرار إلى صف طهران فتخسر الدعم والحماية الأمريكية، وتواجه حينها عقوبات مماثلة للعقوبات القاسية التي تتعرض لها طهران حالياً، وهو ما لا طاقة لبغداد عليه، وفي نفس الوقت تخشى بغداد أن تنجر إلى صف واشنطن فتخسر هدوئها الداخلي، وينفك عقد الحكومة الحالية بدفع طهران لحلفائها في تحريك الشارع العام، وحتى الشارع العسكري بوجود جماعات موالية لها داخل الحشد الشعبي الجماعة المسلحة المتداخلة الهوية والتي تحتفظ بعشرات الآلاف من المقاتلين في عموم البلاد. الحكومة التي يديرها السيد عادل عبد المهدي يمر بما هو أصعب من ما مر به سلفه حيدر العبادي رغم كونهما يملكان نفس الرؤية السياسية للوضع العام في العراق، ورغم إن خلفيتهما متماثلة نوعاً ما لكونهما من عائلات عريقة عتيقة، ومن تيارات فكرية ذات شأن فالأخير كان يعاني من كيفية تحقيق التوازن على الأرض بعد أن تدخلت طهران وواشنطن مباشرة في حرب الحكومة العراقية بحرب التنظيم الإرهابي، الذي كان يغطي عيوبه قوة نيران المعارك في وسط وغرب البلاد على إعتبار أن المعارك في معظم شمال البلاد كانت من نصيب البيشمركة الكردية القريبة من واشنطن، والبعيدة نسبياً عن صراعات بغداد السياسية. لكن، مع رئيس الحكومة الحالي فطبيعة الأمور أكثر صعوبة في الكواليس، وأقل حرارة على الميدان. يترنح الرجل مع واقع صعب، ومسؤوليات كبيرة، وبتكاليف ضخمة بالطبع. لا يستطيع تركيز نظرته على واقع إعادة الإعمار مادام ان بغداد لازالت تترنح سياسياً. والترنح الذي مصدره واشنطن وطهران يحتاج إلى عشرات التدابير لفهم مسار العمل بينهما. لم تستطع واشنطن ان تُمرر حليفها حيدر العبادي والمقبول نسبياً من طهران أيضاً في الانتخابات الأخيرة. كان في ظهور قائمة رجل الدين الشيعي “العراقي الهوى” السيد مقتدى الصدر في صدارة الترتيب الانتخابي ضربة لخطط واشنطن التي حاولت ترسيخ حكم العبادي حينها، وكانت ضربة لخطط طهران التي كانت تسعى في تعويم قائمة الفتح الموالية لها أو حتى المالكي الذي كان قد فقد الكثير من رصيده بعد ميله الواضح لطهران، وبعد قضية الموصل، وبعد عدائيته لكردستان العراق. ظهر المهدي كحل وسط لكل تلك الإشكالات السابقة، ومع قبول من الصدر نفسه الذي إدرك أنه من الصعب تسيد قائمته للمشهد مع كل تلك التكتلات، والتحالفات، والتدخلات الإقليمية والدولية. المهدي الذي من الصعب نجاحه في التهرب من التسارع في التمدد الإيراني في بلاده بعد فرض واشنطن بقيادة رئيسها اليميني السيد ترامب لعقوبات قاسية على اقتصادها يخشى ان تختار الحكومة الحالية في واشنطن توسيع قائمة العقوبات لتشمل بلاده أيضاً. حكومة ترامب رغم اهتمامها بالبقاء في العراق إلا إنها تعادي بدرجة مفرطة أحياناً إيران، وهو ما يحرج الحكومة العراقية التي تصر على إعتبار نفسها خارج الكتل، وخارج العدائيات الخارجية. كانت الزيارات المستمرة لقادة في الحكومة العراقية لواشنطن، وطهران، والرياض، والقاهرة مؤشر على إنها تحاول توصيل رسالة للجميع إن بلادهم في صداقة مع الجميع، وفي نفس الوقت مع حقها في تحديد بوصلة سياساتها المستقلة، وهو ما ليس بالسهل في هذه الظروف على ما يبدو. الحكومة العراقية التي تدرك أن إيران ستكون في طمع بالتغلغل الاقتصادي في بلدها لإنقاذ نفسها، وتخشى أن يشكل ذلك عبئ عليها حينها لا يمكنها أن تتفادى التداخل الاجتماعي والمذهبي بين معظم الجنوب العراقي مع طهران، وتخشى من إثارة الكتل البشرية تلك في حال إعلنت أن حدودها موصودة في وجه التغلغل الإيراني في قادم الأيام في ذات الوقت الذي تبحث عن دعم اقتصادي لعملية إعادة الإعمار لبلد بعض محافظاته شبه مدمرة، الذي من المفترض إنه سيأتي من دول الخليج العربي القلقة من طهران، ومن واشنطن التي تزداد في غضبها من النظام الإيراني، وهو ما سيصعب مهمة الحكام في بغداد في تنفيذ برامجهم المستقبلية. هؤلاء الذين في بحث مستمر عن خطة لإعادة الروح لبلد منهك داخلياً يصرون وفي أكثر من مناسبة على إعلان حياديتهم في الخلافات بين طهران وواشنطن بإعتباره الحل الوحيد الذي يمكن من خلاله النفاذ الى العمل المشترك دون إحراج أو دون أي كلفة ستزيد من متاعب بلد يعاني من عشرات الأمراض التي تحتاج إلى حلول، وإن كان لازالت بعض الجهات السياسية والعسكرية في بغداد تعلن بدون تردد الوقوف مع طهران في معركتها ضد واشنطن! وتفضل الانجرار إلى المصاعب مع إيران على أن تكون في صف واشنطن وحلفائها الإقليميين، وهو ما يخشى من تداعياته كثيرون، ويترقبون بخوف، ويفضلون عدم حدوثه، ويمنون القلب على عدم تحمل بلدهم لفاتورة خلاف دولي يحدث رسمياً خارج حدودها المتداعية أصلاً. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى