fbpx

حزب الله وولاية الفقيه

لم يستطع أي مشروع من المشروعات الشمولية، الدينية والقومية والماركسية، عبر التاريخ، أن يخرج من عباءة المرجعية التاريخية. الفكرية والسياسية المرتبطة بها، والانتقال إلى أفق أوسع يتخطى ثقل هذه المرجعيات ولا يعيد إنتاج خطابه المثقل بالانفصال عن الحاضر. وإذا كان من الطبيعي الارتباط بمرجعية فكرية لأي نشاط إنساني وسياسي، فإن ما ليس طبيعياً تحويل هذه الأفكار إلى مقدسات غير قابلة للنقد ولا للمراجعة، وبخاصة في ظل تلك الأنظمة الشمولية الواقعية بأنواعها. كان الأقل أيضاً لدى هذه المشروعات وجود رؤية مستقبلية تتناول مستقبلها بالنظر إلى متغيرات الحاضر وتأثيرات المفهومات الحداثوية التنويرية أساساً التي أصبحت بعد أكثر من ثلاثة قرون على اختراعها في الغرب السمة الأكثر قبولاً للبشرية ككل، وحتى في حال وجود هذه المشروعات المستقبلية، فإن المثالية كانت تغرقها في بحر الواقع في غياب أي مراجعات حقيقة للصورة الذهنية التي تقدما لمشروعاتها. المشروعات الإسلامية ومرجعيات الماضي في المشروعات الدينية الإسلامية تحديداً هناك نوستالجيا هائلة للماضي، الحاضر بشكله المثالي في الأدبيات الفكرية والعقائدية لهذه الأحزاب والحركات. وتختص الحركات الشيعية والسنية بهذا الموروث المعبأ حتى التخمة بما يؤيد وجهات نظرها وبأنها على “حق” أمام “أعدائها” الحاضرين والسابقين، من دون أن تفكر في بناء مرجعيات جديدة تتوافق مع الحاضر أو مع المعاصرة ومشكلاتها الكثيرة، وفي إطار استيعاب البنى الجديدة الفاعلة في المجتمعات الإسلامية والمؤثرة في سياقات تطورها الإلزامية، لتصبح المقولة المتداولة أن العرب “يتنبؤون بالماضي ويتذكرون المستقبل” صحيحة. التمايز الرئيس الذي يطرحه مفكرو هذه التيارات عن التجارب الدينية الأخرى، المسيحية خصوصاً باعتبارها الند الديني التاريخي للإسلام، هو كون الإسلام “ديناً ودولة”، أي إن المنظومة الكنسية (ارتباط الكنيسة بالدولة لقرون) لم يكن لها نظير في الإسلام لجهة وجود قادة دينيين يؤثرون في اختيار الحاكم كما حدث في أوروبا قروناً طويلة، من جانب ثان يذهب هذا التفكير إلى افتراض أن “دولة الرسول” كانت تجمع في حياتها اليومية الالتزام بالإسلام وطقوسه وفي الوقت نفسه تحيا حياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بشكل لا يتعارض مع الدين. فوق هذا التمايز، ظهرت في سنوات ما بعد السبعينيات في العالم العربي، بالتزامن مع الخسارات العربية في صراعها مع العدو الوجودي (الصهيونية) وفي حقبة كانت المقاومة ضد هذا المشروع “قومية وماركسية” فاعلة ومنتشرة بكثافة في العالم العربي، ما يمكن تسميته “المذهبية” الإسلامية برعاية كل من شاه إيران ثم ثورة إيران والعربية السعودية، لقد كان تأسيس المؤتمر الإسلامي على يد السعودية في المغرب المقدمة الأولى لتفكيك الخطاب القومي والماركسي إلى خطاب ديني، ثم أكملت ثورة الخميني هذا التحول باتجاه ما نشهده اليوم في الشرق الأوسط. من الصحيح أن الخطاب القومي والماركسي لم يكن منتجاً متكاملاً لكنه كان خطاباً جامعاً، ففي الحالة السعودية والإيرانية تحول الخطاب إلى سجال ثم إلى معارك واقعية تعمل على تفكيك الدول ومؤسساتها بناء على الاصطفاف الديني والمذهبي. يذكر الكاتب محمد علي مقلد أنه “كان لافتاً نهوض مشروع الشيعية السياسية بقيادة الإمام موسى الصدر (الإيراني) مع نهوض اليسار الماركسي في ستينيات القرن الماضي المنادي بالعلمنة وإلغاء الطائفية السياسية (في لبنان) حيث راح المشروع يشق طريقه بصيغته الأولى، مكتفياً بمطلب التعامل مع الطائفة الشيعية بالعدل والمساواة، أسوة بالطوائف الأخرى، أي أن يكون لها مجلس ملي، وقد سمي المولود الطائفي الجديد، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، بموازاة المجلس الإسلامي الشرعي للطائفة السنية، ومجالس أخرى مماثلة للدروز والموارنة… الخ.” تشير تجربة الشيعية السياسية في لبنان منذ السبعينيات الماضية إلى اليوم إلى التحول الكبير في خطاب الدول نفسها في المنطقة، والتأثير الكبير الذي مارسته إيران في خلق هذا التحول، والمفاجأة في هذا التحول أنه جاء من باب المقاومة نفسه للعدو الوجودي، أي الباب الجامع للعرب والمسلمين عموماً ضد الخطر الذي أصبح “يهودياً” بعد أن كان “صهيونياً”. الشيعية السياسية الكلام عن الشيعية السياسية يقتضي ذكر لبنان بوصفها دولة بنيت على خلطة طوائف حكمت وجودها في هذا القطاع أو ذاك، عملية تاريخية طويلة الأمد ساهم العثمانيون في خلقها بتهجير وذبح وقتل ونقل لهذه العائلة أو تلك من مكان إلى آخر حيث طائفتها الكبرى، ليتشكل لبنان بتوضع طوائفه الحالية مع تغييرات طالت حركة البشر تبعاً للفاقة والجوع في سنوات الحرب العالمية الثانية باتجاه المدن الكبرى (بيروت وصور وصيدا وشمال طرابلس)، ثم جاءت الحرب الأهلية منذ 1975 لتخلق مزيداً من التركيز الطائفي كما حدث في منطقة الضاحية الجنوبية التي هجرها سكانها المسيحيون نتيجة الضغط الممارس عليهم من قبل الشيعة الذين قدموا من الجنوب وفرضوا أنفسهم عليها فقراء داخل حزام البؤس ذاك في ضاحيتي بيروت الجنوبية والشمالية. كان لبنان بوضعه السابق مكاناً مثالياً لنشوء الظاهرة الشيعية السياسية، فبعد ثلاثة أجيال شيعية، كما يذهب محمد علي مقلد في مقالاته في جريدة السفير، كان أولها عروبياً والثاني ماركسياً، فإن الثالث منها قد تراجع إلى أمية دينية واضحة. وبعد أن كان القسم الأكبر منهم من خريجي الجامعات ومراكز العلم الكبرى فإن الأجيال الجديدة خريجة الحوزات الدينية في لبنان وإيران بشكل رئيس، إذ يقول الكاتب: “من رحم هذه المرحلة نشأ جيل ثالث، ترعرع في أحضان أزمة اليسار القومي والدولي وأزمة النظام العالمي وتغذى من آثار النكبة والنكسة والهزائم العربية ومن انتصار الثورة الإيرانية، فشحن شعار “الإسلام هو الحل” بشحنة مذهبية وأضفى عليه طابعاً إيرانياً خمينياً، مضيفاً شعار ولاية الفقيه، إلى شعارات قديمة سبق اختبارها: الاشتراكية والوحدة العربية والوحدة السورية والخلافة… إلخ. بفعل إضافة هذا البعد إلى البعدين الاجتماعي والقومي، فقدت قضية الجنوب طابعها الوطني وتحولت إلى قضية “شيعية”، احتكرتها الشيعية السياسية وجعلتها نداً لقضية بناء الوطن والدولة وحولتها إلى مادة تحريض مذهبي”. انتقلت قضية الجنوب من أفقها العروبي الماركسي الذي استمر حتى نشوء حزب الله عام 1984 رسمياً ومنعت الأحزاب الأخرى من العمل هناك بضغط سوري وإيراني وحتى مصري، منذ اتفاقية القاهرة عام 1975 ومسألة الجنوب المفتوح على فلسطين كان يشغل بال الأنظمة العربية التي أغلقت جبهاتها مع دولة العدو (سوريا ومصر والأردن)، ولذلك فقد عملت بدأب على إغلاق ملف المقاومة الوطنية في لبنان واتفق الكل على ضرورة إخراجها من الجنوب وتسليم الملف إلى حركة جديدة، كانت حزب الله. إذاً، لقد كان سحب المقاومة من الجنوب اللبناني أول بوادر نشوء حركة دينية تستلم الملف الأكثر إحراجاً للأنظمة العربية ومنها لبنان نفسه الذي لم يكن قادراً في غياب التغطية العربية على استمرار تجاهل وجود هذه التنظيمات وتأثيرها الشديد في مسار الدولة نفسه. ولا شك في أن الضغط الخارجي الممارس على المقاومة وعلى لبنان (بعد 1982) والسوري منه تحديداً قد نقل القضية إلى أفق جديد، دخلت على خطه إيران بدعمها وتأسيسها حركة أمل ثم إجبار الانشقاقات التي خرجت من الحركة على التوحد في حزب الله. لقد كان ثمن هذه التحولات كبيراً وضاغطاً تبعاً لترابطات جديدة نشأت مع تبدل المنطقة في مطلع الثمانينيات، فقد كانت حركة أمل تدور في الفلك السوري منذ نشأتها تقريباً، في حين إن المقاومة الوطنية اللبنانية كانت في الصف الفلسطيني، وقد خاضت هذه المقاومة معارك قوية مع الوجود السوري ممثلاً بحركة أمل في ما عرف بحرب إقليم التفاح، وهي في حقيقتها كانت صراعاً بين النفوذ الإيراني والسوري لتصفية المقاومة بشكلها العلماني وصولاً إلى تعمير جديد لحركة جديدة، تسلّمت بعد الخروج السوري من لبنان 2000 إدارة الجنوب وملفاته ورجحت الكفة الإيرانية في لبنان، في ما بعد في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، اعترف جورج حاوي أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني في رسالة إلى عبد الله الأحمر، الأمين المساعد لحزب البعث السوري، أن دخول المقاومة في هذا الصراع كان خطأ كبيراً تتحمل سوريا مسؤوليته. اكتمل نصاب الشيعية السياسية بعد مؤتمر الطائف الذي أعطى حصة من كعكة الدولة إلى الطائفة الشيعية، وبدأ مصطلح الترويكا يحضر في ترتيبات البلاد ككل، الرئاسة الشيعية والسنية والمسيحية المارونية تتعامل مع لبنان بوصفها إقطاعية لكل منهم فيها نصيب. هذا الترتيب جاء لمصلحة انتفاخ الشيعية السياسية كثيراً، زاد عليه الخروج السوري من لبنان 2006 وما بعد حرب تموز أيضاً، لقد تحول إلى قوة مسلحة تسليحاً يتفوق فيه على الدولة اللبنانية نفسها، متباهياً مرات بانتصارات متعددة على عدو فشلت الأنظمة العربية في تحقيق أي انتصار يذكر عليه لأسباب كثيرة، هذا ما جعل الحزب قوة حقيقة مؤثرة تتجاوز دورها الداخلي اللبناني إلى دور إقليمي يتماهى مع الدور الإيراني ولكن مع الانتباه إلى قدرة سياسية فائقة على إدارة الداخل اللبناني من بوابة التركيز على السياسي الداخلي وعدم تجاهله والتأثير فيه بطريقة إيجابية عملانية. حزب الله وإيران تثير العلاقة بين الحزب وإيران والصورة المتداولة بين الإعلام والناس أسئلة محقة في ظل أمرين مهمين جداً، الأول منهما مرتبط بالصراع مع إسرائيل، والثاني دور إيران العربي وإلى أين يذهب كل من هذين الأمرين مستقبلاً. في حرب تموز 2006، ارتفعت شعبية حزب الله في العالم العربي كثيراً، وكان واضحاً أن الانهيار العربي أمام دولة العدو قد توقف أمام معارك طاحنة خاضها الحزب ضد العدو، وبملاحظة أن سبب الحرب الظاهري كان خطف حزب الله لجنديين إسرائيليين (كانا عنصري استخبارات) وتجاهل كمية الدمار الكبيرة التي طالت لبنان بسبب تلك الحرب، فإن الحزب كان قد تحول فعلاً إلى قوة عسكرية قادرة بدعم إيراني – سوري على الدخول في قرار الحرب كما في قرار السلم. كان قرار دخول الحزب الحرب السورية قراراً مرتبطاً بتحولات الحرب نفسها وامتدادها باتجاه تحول الصراع إلى صراع طائفي بين المجموعات المسلحة السورية المدعومة من الخارج، وتلك التي لحقتها بدعم إيراني، ولاحقاً روسي. إلا أن هذا الدخول قد أفقد الحزب كثيراً من عناصر شعبيته التي حصل عليها بشق الأنفس ليتحول الحزب كغيره من الأحزاب الإسلامية إلى المذهبية التي جعلت رصيده عربياً قليلاً جداً خارج طائفته إلى درجة أن استفتاء فيصل القاسم في سؤال: من ستؤيد إذا اندلعت حرب بين حزب الله وإسرائيل عام 2014؟ أفضى إلى تأييد أكثر من النصف لإسرائيل. يمكن الاختصار والقول عن الحزب إنه قد خسر بدخوله الحرب السورية أكثر مما ربح، وإن كان بعض الخبراء يذهب إلى أن دخول الحزب كان لمصلحة لبنان بالدرجة الأولى تفادياً لنقل المعارك إليه عبر جرود القلمون والجوار السوري، إلا أن الحال أبعد من ذلك، ويرتبط بوضوح بالصراع السوري والدور الإيراني في المنطقة إذ تبحث إسرائيل اليوم عن طريقة لإخراجه منها بأي ثمن كان، ولعل ما يجري في مدينة درعا الحدودية اليوم خير دليل على ذلك، وهذا يشتق منه أسئلة كثيرة: هل حقاً ستخرج إيران من الجنوب السوري أم أنها ستعمل لتأسيس حالة شبيهة بما أسسته في جنوب لبنان؟ وهل ستسمح لها إسرائيل بتكرار الأمر؟ على الرغم من أن ظاهر الأمر وما نراه اليوم في جبهة الجنوب يقول لا. إلا أننا ندرك جيداً أن إيران لا تستسلم بسهولة، ولهذا حديث آخر. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى