fbpx

يمين ويسار في واشنطن

الكاتب: محمد سيد رصاص في القرن العشرين تحددت خريطة اليمين واليسار في أوروبية الغربية: يمين يضم الأحزاب المحافظة والأحزاب الديمقراطية المسيحية والليبرالية، و الشيوعيون والاشتراكيون الديمقراطيون في اليسار وكان هناك استثناء فرنسي في اليسار لم يكن موجوداً في بلدان أخرى هو الحزب الراديكالي، الذي حمل تراث يعاقبه الثورة الفرنسية بقيادة روبسبيير، حيث كان هذا الحزب هو ثالث ثلاثة مع الاشتراكيين والشيوعيين في تحالف اليسار الذي حمل فرانسوا ميتران للرئاسة عام 1981. في بريطانيا كان هناك يسار عمالي قوي، مع ضعف للشيوعيين من الناحية التنظيمية من دون الثقافية، فيما كان اليمين يتوزع بين المحافظين والحزب الليبرالي، وإن كان حزب العمال قد انشق عنه جناح ليبرالي عام 1981 بزعامة دافيد أوين الذي أسس (الحزب الديمقراطي الاجتماعي) في ظرف بدأ فيه انزياح الكثير من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية نحو الوسط مبتعدة عن اليسار باتجاه الليبرالية (تبلور هذا في التسعينيات في بريطانيا مع طوني بلير في حزب العمال وفي ألمانية في الحزب الديمقراطي الاجتماعي مع غيرهارد شرودر). في الولايات المتحدة الأميركية لم يكن هكذا الوضع كمافي الشاطئ الشرقي للأطلسي: لم يكن هناك يسار متبلور في أحزاب بالتاريخ الأميركي سواء في زمن الأممية الثانية (1889-1914) أوفي زمن الأممية الثالثة (1919-1943) بشكلي اليسار: الاشتراكي الديمقراطي والشيوعي. في أميركا كان هناك مع الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي اقتراب من ثنائية حزب المحافظين وحزب الأحرار(الليبرالي) في بريطانية قبل تأسيس حزب العمال عام1900. كان الجمهوريون الأميركان أقرب للقيم المسيحية في القضايا الاجتماعية والأخلاقية، فيما كان الديمقراطيون في خط ليبرالي منفتح. في القرن العشرين ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى لم يكن هذا هو الفالق السياسي الذي فرقهما بل موضوع الموقف من الانخراط الأميركي في مشاكل ” القارة العجوز „: كان الجمهوريون ، وأقلية من الديمقراطيين ، غير موافقين على دخول إدارة الرئيس وودرو ويلسون ، وهو من الحزب الديمقراطي ، في الحرب ضد ألمانيا عام1917بل كانوا يريدون الحفاظ على العزلة التي كرسها (مبدأ مونرو)عام1823عن القضايا الأوروبية . عندما استلم الجمهوريون البيت الأبيض بين عامي 1921-1933 عادوا للعزلة ورفضوا الانخراط الأميركي في عصبة الأمم. في فترة ما بعد بدء الحرب العالمية الثانية يوم 1 أيلول 1939تك رر الانقسام الأميركي الذي كان زمن الرئيس ويلسون: رئيس ديمقراطي راغب بالدخول الأميركي بالحرب ضد هتلر واليابانيين وحزب جمهوري رافض لذلك. حسم الهجوم الياباني على بيرل هاربور في 7كانون أول1941 الأمور لصالح الرئيس فرانكلين روزفلت. مع تزعم واشنطن للمعسكر الغربي بعد الانتصار في الحرب وبدء المجابهة مع السوفيات مع بدء الحرب الباردة عام1947ظل هناك اتجاه قوي عند الجمهوريين بزعامة السيناتور روبرت تافت في رفض الأمم المتحدة ومشروع مارشال وحلف الأطلسي ودخول أميركا في الحرب الكورية. في انتخابات الترشح عن الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية عام 1952 انهزم تافت أمام دوايت أيزنهاور: ظهر يمين جمهوري أميركي أبدى استعداداً للنزال مع ستالين في الكرملين (توفي في آذار1953) على الحلبة الأوروبية. حتى عام1989عندما انتصر البيت الأبيض على الكرملين بالحرب الباردة كان الجمهوريون (أيزنهاور، نيكسون، ريغان) هم الأكثر هجومية وتصلباً مع السوفيات، فيما كان الديمقراطيون (مثلاً: كينيدي وكارتر) هم الأكثر ليونة. لم يكن موضوع السوفيات هو المحدد الرئيسي لليمين واليسار في واشنطن وإنما شاركت معه بقوة في التحديد مواضيع داخلية مثل التي أثارها مارتن لوثر كينغ في حملته بالستينيات من أجل الحقوق المدنية. منذ الستينيات بدأ يظهر مشهد جديد أميركياً غير مألوف في أوروبية: بدأ إطلاق صفة اليسار على شرائح واسعة في الحزب الديمقراطي هي ليبرالية حيث بدأ المزج بين الليبرالية واليسار. في الثمانينيات تم المزج عند الحزب الجمهوري بين الليبرالية الجديدة، المبتعدة عن أفكار كينز باتجاه أفكار ميلتون فريدمان في الاقتصاد التي تعتبر (النقد)المعيار الأساسي في الاقتصاد وليس(السلعة)، وبين نزعة محافظة جديدة في الفلسفة والسياسة، تقطع مع تراث (عصر الأنوار الفرنسي) الذي يشترك في الأخذ منه اليمينيون الليبراليون واليساريون ، قدمها ليو شتراوس . في عهد ريغان اجتمعت الهجومية ضد السوفيات مع ليبرالية منفلتة من عقالها في الاقتصاد. في عهد كلينتون بالتسعينيات وهو ديمقراطي كان التركيز على الاقتصاد ، فيما استعيدت التدخلية الهجومية الخارجية الممزوجة بالليبرالية الجديدة  في الاقتصاد مع تلاميذ ليو شتراوس الذين قاموا بغزو العراق أثناء إدارة جورج بوش الابن التي سيطروا عليها . خلال عقدين من انتهاء الحرب الباردة (1989-2009) لم يتبلور فالق اليمين واليسار بوضوح عند الأمريكان، والدليل على ذلك تصويت الكثير من الديمقراطيين مع غزو العراق. تبلور هذا الفالق مع باراك أوباما الذي انتخب عام2008على خلفية فشل التجربة العراقية واندلاع الأزمة المالية – الاقتصادية في أيلول قبل شهرين من الانتخابات الرئاسية الأميركية. أراد أوباما العودة إلى وصفات (كينز)في الاقتصاد التي طبقها روزفلت في الثلاثينيات إثر أزمة 1929-1932: تدخلية اقتصادية أكبر للدولة، والعودة إلى دولة الرعاية الاجتماعية، وقد كانت المعركة الكبرى لأوباما مع الجمهوريين هي معركة الضمان الصحي OBAMA CARE. كان هناك فالق آخر هو اتجاه أوباما إلى زيادة الضرائب. هذا في الداخل، أما على صعيد الخارج فقد تبلور استقطاب جديد مع نزعات عند أوباما نحو الانسحاب من العراق(نهاية2011) والانزياح عن منطقة الشرق الأوسط والاتجاه نحو اتفاق مع طهران على الملف النووي الايراني. لم يطلق على أوباما وصف (اليساري) من قبل الحزب الجمهوري بل كان يعتبر ليبرالياً معتدلاً أو أقرب إلى الوسط مع ظهور جناح “تقدمي „عند أعضاء الحزب الديمقراطي مثله (برني ساندرز) اعتبر يسارياً في المشهد السياسي الأميركي، نادى بحرية الإجهاض وباللاحمائية الجمركية و بتشريع زواج المثليين وبعدم وضع قيود أمام المهاجرين وخاصة الآتين من أميركا اللاتينية أومن المسلمين. في انتخابات الترشيح للانتخابات الرئاسية عن الحزب الديمقراطي عام2016سحب ساندرز ترشيحه لصالح هيلاري كلينتون التي هي ليبرالية وسطية صوتت بالكونغرس لصالح غزو العراق بخلاف ساندرز وأوباما. في رئاسيات 2016هزمت كلينتون أمام دونالد ترامب الذي يمثل أقصى يمين الحزب الجمهوري. في الساحل الغربي والشرقي أخذت كلينتون أصوات أكثر فيما أخذ ترامب في مناطق الوسط الداخلي الأميركي عند الفئات الوسطى والفقراء غالبية كاسحة حملته للبيت الأبيض. فئات رجال الأعمال وأصحاب البنوك والمتعلمون والفئات الوسطى العليا صوتت لكلينتون وكذلك غالبية كاسحة من الزنوج والأميركيون اللاتينيون واليهود والمسلمون. نادى ترامب باللاعولمة وبالحمائية الجمركية وبالقومية الاقتصادية (عودة الشركات الأميركية لأميركا) و التخلي عن الاتفاقيات الدولية الاقتصادية، كما نادى بإغلاق أبواب الهجرة للولايات المتحدة ، وبقيم ثقافية هي أقرب لليمين الجديد الأوروبي . في الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي (6 تشرين ثاني2018) فاز الديمقراطيون بأغلبية مقاعد مجلس النواب، فيما احتفظ الجمهوريون بأغلبية مجلس الشيوخ: هذا تقليد أميركي بدأ عام1946 أن لايفوز حزب الرئيس بالانتخابات النصفية لمجلسي الكونغرس ، ولكن مستوى خسارة حزب ترامب أعلى من معدل الخسارة المعتادة . يمكن أن يكون السبب هو قصووية ترامب الأيديولوجية، مما أنشأ وحدة صلبة بين الجناحين الليبرالي الوسطي والليبرالي اليساري التقدمي عند الديمقراطيين مماجعلهم يفوزون عند الأقليات والنساء والمثليين والفئات الشبابية والفئات الأكثر تعلماً. فاز الديمقراطيون ب 37مقعداً جديداً عن عددهم السابق بمجلس النواب فيماكانوا يحتاجون فقط ل 23مقعداً للوصول للأكثرية. كان لليساريين التقدميين في الحزب الليبرالي دوراً كبيراً في هذا الفوز ولوأن الوجوه الفائزة معظمها من الليبراليين الوسطيين، ويبدو أن الانتخابات النصفية للكونغرس قد أعطت مؤشرات على أن الحزب الديمقراطي يتعزز يساره مع تزعم اليمين الأقصى للحزب الجمهوري، ولكن ليس من المرجح أن يكون ساندرز بوجه ترامب في انتخابات رئاسة 2020 بل سيتكرر سيناريو يوم الثلاثاء الماضي عندما وقف اليساريون وراء الوسطيين الليبراليين في وجه ترامب ويمينه القصووي الجديد . لم ينفع ترامب نمو اقتصادي شهدته الولايات المتحدة في السنتين الماضيتين ولا انخفاض معدل البطالة. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى