fbpx

كلب اليونان أم عباس النوري ودريد لحام

في التاسع من أكتوبر تشرين الأول 2014 انتشرت على مواقع التواصل حالة من الحزن، إثر اعلان موت (لوكانيكوس) أشهر كلب في اليونان، أو ما يعرف بكلب الانتفاضة، وهو الكلب الذي بلغت شهرته الذروة، عندما اختارته “مجلة التايم” الأمريكية في عام 2011 ضمن لائحة شخصيات العام. وحكاية الكلب تلك، أنه شارك ما بين عامي 2008 و2012 في كل التظاهرات التي شهدتها العاصمة اليونانية قبالة البرلمان آنذاك، وكان هذا الكلب أحد أبرز رموز التظاهرات التي عرفتها اليونان ضد سياسة التقشف التي انتهجتها الحكومة بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ألمت بالبلاد. الكلب لوكانيكوس لم يحتج إلى وقت طويل لكي يميز بين الشرطي صاحب الهراوة وقنابل الغاز المسيل للدموع، وبين جموع المتظاهرين الرافضين لسياسات الحكومة، خصوصاً عندما قُتل أول متظاهر في ديسمبر/كانون الأول 2008، عند ذلك انحاز الكلب ووقف الى جانب المتظاهرين واستمر في ذلك على مدار سنوات، إذ رصدته وكالات الأنباء العالمية طوال الأيام يتقدم الصفوف الأولى للتظاهرات، وهكذا تحول إلى أسطورة، وخادم للمتظاهرين، وكان لا يتردد في الكشف عن أنيابه في وجوه رجال الأمن ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل لم يشاهده أحد يهاجم أي من المتظاهرين، وأكثر من ذلك، كان يلتقط عبوات الغاز أحيانا ويبعدها عن المتظاهرين بينما كانت هذه السموم تنخر في جسده حتى قضى نتيجة تأثره بها فيما بعد.* المفارقة في هذه القصة، هي الزمان، والتوقيت، والكاميرا التي رصدت تلك المشاهد المؤثرة، لوقوف كلب في طليعة المتظاهرين الرافضين لسياسات الحكومة، وأما التوقيت، فالشارع العربي كان على وشك رؤية ربيعه القادم، الذي تحول الى ربيع دموي أسدل الستارة على أحلام ملايين الشباب الحالمين بالتغيير، وتلاشت تلك الأحلام بحدوث التغيير السلمي على شاكلة الأمم المتقدمة، التي تستطيع من خلال احتجاجاتها السلمية تغيير السياسة وقواعد العمل. بمقابل تظاهرات اليونان، والكلب الذي استطاع تحديد مساره، كان الموقف في سوريا مختلفاً تماماً، فرغم ذلك المشهد الدموي الحاضر، لم تستطع كثير من النخب السياسية والعلمية والدينية أن تحدد موقفها (ولو فقط) ضد استمرار قتل المدنيين، وهو أبسط فعل من الممكن أن يصدر عن إنسان طبيعي، لكنه في سوريا، أبقى نخبة كبيرة، تحاول تبرير قتل المتظاهرين بحجة المؤامرة الكونية؟!. نخب متعددة ولكن؟ النخب المثقفة، هي تلك النخب التي تحترم ثقافة شعبها أولاً وتحترم ثقافات الآخرين بلا استثناء، حتى لو كانت تلك الثقافات مجرد أساطير لا أصل لها، لأن احترام الثقافة، هو احترام التعددية، واحترام التعددية يعني قبول الآخر، وعندما ننشر ثقافة قبول الآخر، نكون قد ساهمنا بإبعاد شعوبنا عن فكرة الصراعات العرقية والطائفية وغيرها. فالنخب المثقفة الواعية تقدم نفسها كسفراء للإنسانية، خصوصاً أننا في عالم يشهد عودة الاضطرابات الطائفية والعرقية إلى الواجهة، ما يعني أن المثقف معني بالظهور بالطريقة التي يساهم فيها في تخفيف الاحتقان وليس في إثارة النعرات والأحقاد، وخصوصاً إذا ما كانت البلاد تعيش على وقع صراع دموي حاد، كما هو الحال في سوريا. الممثل عباس النوري، وبعد الدعم الكبير الذي تلقاه من الجمهور السوري والعربي مما أوصله الى هذه المكانة من الشهرة، ورغم دعمه للنظام، ورغم صمت الجمهور السوري وعدم تخوينه له، غير أنه اختار الوقوف على المنبر الذي يمس برموز الأمة، حيث اكتشف عباس النوري أن صلاح الدين الأيوبي هو (كذبة) وهذا القول وغيره من إهانة رموز الأمة، إنما تعكس أمراً مهماً وهو ذلك انحدار الثقافي، ووجود نخب كثيرة برزت في عالم الشهرة غير أنها لم تحترم ثقافة شعوبها. عباس النوري صوت روَّج عبر فضائيات نزعة الطائفية المتطرفة، أو ما يتم كتابته في بعض الصحف ومواقع الانترنت المدعومة من إيران، والتي تتركز على مفهوم برموز تاريخية. ما يعكس أننا أمام أخطر مواجهة يسعى التناحر الطائفي، اذ يحاول تحويل الاختلاف المذهبي الى صراع عميق غير قابل للحل. بمقابل ذلك، دعونا ننظر الى مائتي عام من التدافع الحضاري بين الشرق والغرب، غير أن الأوروبيين لم يفكروا بتاتاً بمحو تاريخ المشرق كما تفعل إيران وأذنابها، بل على العكس تماماً، إذ إننا نشعر اليوم بالفضل الكبير الذي أنتجه علم الاستشراق الغربي على بلادنا، فقد كان هذا العلم من أفضل العلوم التي ساهمت بحفظ تراثنا الشرقي من الاندثار. ففي الوقت الذي تعمل جهات طائفية عبر أدواتها إلى محو صورة صلاح الدين الأيوبي وغيره، دعونا نرى ما نقله المستشرق الألماني جوزيف شاخت وزميله المستشرق الإنجليزي كليفورد بوزورث في النص التالي، والذي يعكس صورة صلاح الدين في المجتمعات الغربية حتى في القرن الوسيط حيث يقول النص: (في القرن الرابع عشر ظهرت قصيدة طويلة جرى العرف على تسميتها صلاح الدين، وأعيد فيها صياغة حوادث الأساطير القديمة السابقة ذلك إن فارساً من هذا الطراز الرفيع يجب أن يصبح بالضرورة منتمياً إلى الأسرة المسيحية وهكذا قيل إن أمه هي الكونتيسة بونثيو (Countess of Ponthieu) التي تحطمت سفينتها على الساحل المصري وأنه اعتنق المسيحية على فراش الموت)*. انتهى الاقتباس والمقصود هنا هو صلاح الدين الأيوبي. في قراءتنا للنص السابق، دلالة مهمة عن حقبة التدافع الحضاري بين الشرق والغرب والتي استمرت قرابة مائتي عام من الحروب، لكن تلك الفترة على قسوتها إلا أنها حافظت على القيمة الثقافية بين الشعوب. بمقابل ذلك فالمشهد السوري عندما انطلق لم يكن يحمل غير دعوة للحرية، ولم يكن للشعب السوري أي موقف طائفي أو معادي لإيران، غير أن إيران دخلت بثقلها المادي والمعنوي وخاضت لعبة الدم، وصولاً إلى مساهمة الإيرانيين والنظام في صناعة قوى متطرفة بهدف تغيير ملامح المشرق العربي بأكمله، بما في ذلك حتى الموروث الثقافي الذي يعود إلى الجذور العربية. أزمة مثقف: تاريخياً كانت لدينا جدلية الحديث عن الهوية، وهل نعاني أزمة ثقافة أم أزمة مثقف، وهل كانت الأزمة الحقيقية هي انسياق نخب معينة خارج إطار الواقع، وهو أمر بتنا نشاهده بالفعل في ساحتنا العربية، إذ أقدمت نخب سياسية عديدة على تحويل المشهد البسيط في سوريا – مشهد ثورة تطلب الحرية – إلى مشهد من نوع مختلف، فقد أصبح المطلوب الوقوف مع الجلاد والقاتل، وهناك نخب ثقافية عديدة تعمل على الترويج لدولة مارقة مثل إيران، ومحاولة تصويرها كدولة حامية للعرب، أو زعيمة للشرق في مواجهة الغرب وغير ذلك من الأفكار العبثية، وصولاً إلى قيام البعض بتقديس ملالي إيران، ليتم تقديمهم كنموذج للاحتذاء به. ثم كيف يمكن قراءة المشهد رغم وضوح الصورة في سوريا. كل هذه مشاهد تضعنا أمام فهم مختلف لما يجري، يتمثل في رؤية تكوين تلك النخب، وفي مدى وعيها، وفي تقديمها فكرة المصلحة على حساب المجتمع. وتذهب بعض النخب على طريقة بكائية دريد لحام، الذي يرى نفسه (صرماية الوطن) هذا الوطن الذي يتم ذبحه من الوريد الى الوريد، والذي تتم فيه محاولة صناعة ثقافة بديلة غريبة كلياً عن المشرق العربي، وهي ما ورد منها على لسان دريد لحام في فيديو مسجل على يوتيوب يقول فيه مخاطباً المرشد الإيراني علي الخامنئي بالكلام التالي: (في روحك القداسة، في عينيك الأمل، في يديك العمل، وفي كلامك أمر يُلبى..).. فكيف يمكن قراءة هذه المعادلة؟ وكيف يمكن قراءة صمت مشايخ ودعاة ومؤسسات دينية أمام محاولة إعادة صناعة المنطقة العربية ثقافياً، بما يجعلها تسير تحت عباءة دولة مارقة، وثقافة لم يعد أهل البلاد في إيران ذاتها يؤمنون بجدواها. الفنان تاريخياً يمثل وجدان الشعوب وضميرها؛ فكيف لا ينحاز لها وهي تُسْتَضّعَف؟ لذلك من حقنا أن نتساءل: أيهما أكثر إنسانية وأخلاقية؟ عباس النوري ودريد لحام أم كلب اليونان؟ أم أنّ الأمر محتاج إلى حيونة بعض الفنانين لعلهم يتأنَّسون؟.

مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى