fbpx

هل هناك حوار أديان؟

على الرغم من بروز عدد من القيم الإنسانية التي فرضتها معايير الحداثة المتقدمة ومقتضيات العيش في رحابها وشيوع خطاب التعددية واحترام الاختلاف، بقي (الدين) -بما يمثّله من مفاصل الصراعات الأخطر بين الجماعات والدول المختلفة الثقافة- أساساً للتمييز بين البشر. ففكرة الحضارة الإنسانية بوصفها ‏‏الإطار‏ الأكبر الذي ‏يحتوي‏ ‏الثقافات كافة ويعمل على ترابط هذه الثقافات على اختلاف تأثيرها، لم تلغِ حالة اختزال انتماء الأفراد بهويتهم الدينية التي تبدو واضحة في موضوع الهجرات الإسلامية إلى الغرب، وما نتج منها تجمّعات لها طابعها الخاص تعجز نسبياً عن التوفيق بين ثقافتها وهويتها، والمحيط الاجتماعي والمناخ الفكري والثقافي الذي تعيش فيه، وفي معظم الأحيان تُختزل الجالية الإسلامية في العالم الغربي في هويتها الدينية وحسب.

ولم تمنع الحضارة الإنسانية ولادة خطاب ديني يبتعد عن التكيّف مع القيم الدنيوية، ويسعى لإعادة تنظيم المجتمعات على أسس دينية مقدّسة، تزداد ترسّخاً مع ازدياد التعصّب الديني، والإرهاب الرسمي وغير الرسمي، والعنف والاحتلال الذي رفع من حدّة المخاوف المنتشرة في مستوى العالم، وجعل البحث عن حلول لانتشال العالم من صراعات موجودة ولاحقة، يتجّه -بدل تأكيد تنوّع الثقافات- نحو صياغة مفهومات جديدة كحوار الحضارات، تحالف الحضارات، حوار الأديان.

انطلاق فكرة الحوار بين الأديان من الجانب المسيحي

بعد غياب وتجاهل قروناً عدة لمسألة الحوار وإمكانيته بين أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية، انطلقت فكرة حوار الأديان من الجانب المسيحي مع انعقاد المجمع الكاثوليكي الثاني عام 1965 والإعلان البابوي الذي صدر عنه بعنوان “في زماننا هذا” لفتح الحوار من الجانب الكاثوليكي، بين المسلمين والمسيحيين الذين اتَّهم بعضهم بعضاً أكثر من ألف وأربعمئة عام بأخطاء عقائدية، وجرت تبرئة اليهود من دم المسيح، ما كان وما يزال نقطة الاختلاف الجوهري بين ديانتين يجمعهما “الكتاب المقدّس” ومقولة المسيح (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ) (إنجيل متى 5: 17).

عام 1995 أُسّست “اللجنة الإسلامية الكاثوليكية للتعاون”، وعام 1998 أبرم البابا يوحنا بولس الثاني اتِّفاقية مع جامعة الأزهر المصرية، وتلاها عقد حوارات ومحادثات في بلدان إسلامية أخرى، إلى أن البابا بنديكتوس السادس عشر اتَّهم الإسلام في محاضرته التي ألقاها في جامعة ريغنسبورغ بالخروج عن العقل بالعنف، مفترضاً إياها رسالة مفتوحة للحوار وأن مستقبل العالم يتوقَّف على السلام بين المسلمين والمسيحيين، لينعقد في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007 في روما، أوّل اجتماع للملتقى الإسلامي الكاثوليكي بشعار “محبّة الله ومحبّة الآخر”، استقبل البابا ممثِّلين عن الديانات العالمية كلها في أثناء صلاة جَمعت ممثِّلين عن أديان متعدِّدة وأقيم الاجتماع في مدينة نابولي، وفتح ممثِّلو الديانتين فصلاً جديداً في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، تلاه عدد من المؤتمرات كمؤتمر حوار الأديان العالمي الذي أُقيم في مدريد برعاية السعودية في 16- 18 تموز/ يوليو 2008، وآخرها زيارة البابا فرانسيس إلى أبو ظبي في 3 شباط/ فبراير 2019 التي عدّها صفحة جديدة للحوار مع العالم الإسلامي.

اليهود وحوار الأديان

على الرغم من تأخّر دخول اليهود في حوار الأديان، إلا أن فكرة الالتقاء اليهودي مع بقية الأديان، وردت في كثير من الإصدارات، فالناشران ألكسندر فيدورا وماتياس لوتس باخمان، بحثا في إصدارهما “اليهود والمسيحيون والمسلمون وحوار الأديان في العصور الوسطى” الأسباب الفكرية للتسامح الديني في القرن الثاني عشر، كذلك نشر الباحث الأمريكي مارك كوهين الأستاذ في دراسات الشرق الأوسط والتاريخ اليهودي في جامعة برنستون كتاب “في ظل الصليب والهلال” الذي صدر في ميونيخ مارس/ آذار 2005 مقدماً تحليلاً لسبب الاختلاف في التعامل مع هذه الأقليّة في أوروبا والعالم الإسلامي. وكانت أولى المشاركات اليهودية في مؤتمر الدّوحة لتعزيز الحوار بدورته الثالثة عام 2005، وذلك بمشاركة 8 حاخامات من فرنسا وأمريكا، في حين اعتذر3 حاخامات إسرائيليين عن حضورهم، لتتكرّر مشاركة الحاخامات غير الإسرائيليين ضمن فاعليات مؤتمر الدّوحة وفي المؤتمرات العالمية.

حوار أديان أم حوار بين أتباع الأديان؟

مع ازدياد التطّرف الديني والإرهاب وبروز الحركات العنصرية التي تحارب باسم الدين حيناً وباسم القومية حيناً آخر، ازداد التوجّه نحو مؤتمرات حوار الأديان بوصفها حلاً للحدّ من مستوى الكراهية والرفض بين أبناء الديانات المختلفة. إلا أن ما يشاع حول مؤتمرات حوار الأديان من احتمال تقديمها حلولاً لمثل هذه المشكلات يدفعنا إلى التساؤل حول حقيقة وجود مثل هذا الحوار. فالانزلاق نحو عد الصدام والصراع باسم الدين صدام أديان قاد إلى جملة مخاطر، فالحروب الصليبية التي قادها الغرب لأطماعه ومصالحه أُلبست لبوس الدين، لم تكن حرب الإنجيل مع القرآن، بل صراع الأتباع، وكذلك ما تقوم به الجماعات الإرهابية من قتل باسم الدين الإسلامي لاتمثّل إرهاب القرآن ضد الإنجيل بوصفه دعوة قرآنية، والخروج من حالة الصراع تحت لواء الدين أي دين، لا يعني الالتفات نحو فكرة مضلّلة أخرى بمسمّى حوار الأديان. فالأديان بوصفها مُنزلة في كتبها المقدسة الثلاثة (التوراة والإنجيل والقرآن) لا تتحاور إنما يتحاور القيّمون عليها.

حوار أتباع الأديان شعارات جذّابة بلا جدوى

ما تعيشه البشرية جمعاء في ظلّ النزاعات السياسية التي طال أمدها واختلطت فيها الأمور الدينية والثقافية بالأمور الاقتصادية والسياسية، يدفع نحو ضرورة البحث عن بدائل والتأسيس لحركة وعي حضاري لإنقاذ الإنسان، لكن هذا الإنقاذ لا يمكن قيامه في الالتفاف على عناصر الصراع وعدّ الدين جوهر المشكلة وأساسها، فمهما اتخذ من الأهمية في تحريك علاقات الجماعات البشرية المختلفة وطبائعها وأنماطها وتوجيه دوافعها ومساراتها في مجرى التاريخ، سيبقى بعيداً عن الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعيشها العالم، فعلى ماذا يتحاورن وإلى ما سيصلون؟.

اللجوء إلى مؤتمرات بشعارات جذّابة لها غايتها المختلفة عند أتباع الديانتين المسيحية والإسلامية لن تكون منطلقاً لتكريس مصلحة الإنسان، لأسباب كثيرة ومتنوعة أهمها:

أولاً: أن أتباع الدين الواحد منقسمون في ما بينهم إلى مذاهب تتجه نحو الخلاف بدل الاختلاف، فمن الذي يمثل هذا الدين أو ذاك، ليقود حواراً باسم الدين، وهل مَن يتحاورن باسم الدين يمثّلون الدين، كلّ الدين. أوَليس من الأجدى لأتباع الأديان أن يتلاقوا ويتحاوروا في ما بينهم ليكونوا صفاً واحداً في الحوار مع دين آخر.

ثانياً: إن من يقود الحوارات هم النخبة المتدينة التي لا يمكن أن يتنازل أي منها عما استقرّ عليه من رأي في أماكن الخلاف مقابل الوصول إلى مشتركات دينية تشكّل قاعدة يتّبعها أفراد الأديان كلّهم. لتكون نتيجة المؤتمرات استرضاء الجانبين بعضهما والاتفاق على المتّفق عليه سلفاً حول القيم المشتركة من منظور فقهي ولاهوتي تجديدي والتركيز على إمكان التسامح بين الأديان، ونبذ العنف ومكافحة الإرهاب.

ثالثاً: أن المؤتمرات أغلبها يتخذ طابعاً سياسياً، وبعضها يقوده رؤساء دول أو ملوكها ورؤساء حكومات، يتباحثون حول دور الدين بالصراع بدل تنحيته بوصفه سبباً والالتفات إلى الأسباب التي دفعت إلى نشوء صراعات باسمه، لتكون هذه المؤتمرات محض لعبة سياسية تنقصها الأسس الصحيحة في ظل النزاعات السياسية التي لا تُحلّ إلا من خلال الحوار السياسي، ولا يمكن تحققيها ما دامت أسباب العداوة موجودة، بما أُسّس له من حروب ومن احتلال.

رابعاً: إن هذه الحوارات تبقى في حيّز المؤتمرات وبين المؤتمرين، ولا تنتقل نحو القاعدة الشعبية لتتّخذ بُعدها الفعلي والفاعل في بناء الثقة بين أتباع الديانات المختلفة -أو على الأقل بين أتباع الدين الواحد- التي تتطلب معرفة الدين الآخر من مصدره للتحاور حوله، وعدم الاكتفاء بالصورة الدينية المستمدّة من الديانة تجاه الديانة الأخرى، أو الموروثات الفقهية، أو اللاهوتية أو الثقافة الدينية الشعبية التي تنطوي عادة على بعض المثالب التي ترفع الحواجز بين المتحاورين بدل الانفتاح على معرفة الدين.

هذه الأسباب كلها تجعل من مؤتمرات الحوار بين الأديان قليلة الجدوى في غرس مفهومات الحوار وتمتينه في المجتمع، وفي تعزيز التعايش بين أتباع الديانات كحلّ لجزء كبير من المشكلات.

خاتمة

إن ما يبرز بوصفه خلافاً بمسمى الدين لم يكن عبر تاريخه الطويل سوى خلافاً سياسياً يقوده أتباع الأديان، واستبدالها باعتماد الحوار الديني والتلاقي الديني عبر الإعلام أو المنتديات أو المؤتمرات بوصفه إنقاذاً لما يعيشه العالم من كوارث هو محض وهم، الأجدى منه التوجّه إلى العمل في ما وراء الثقافات الخصوصية، لإيجاد قاسم مشترك إنساني أعظم من القيم الخاصة المغلقة وإيجاد فرص أكبر لتنويع المرجعيات، حتى نستطيع الوصول إلى الانفتاح على الآخر فهو الذي يؤسّس لبناء حضارات مكتملة بإجماع إنساني.

هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى