fbpx

انتهازيون تحت الطلب

عرف الصراع السوري حالاتٍ متعددةً من تغيّر مواقف القوى الاجتماعية والشخصيات ذات النفوذ المحلي حيال هذا الصراع وكيفية صناعة الموقف الملائم منه مع التغيرات المشهدية فيه. ويمكن مشاهدة هذه الحالة في المناطق ذات التبعية للذهنية العشائرية، تتضح الصورة أكثر في منطقة “الجزيرة السورية” أي مناطق شرق الفرات بعد أن طردت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” تنظيم الدولة الإسلامية داعش من تلك المنطقة. إذ أدى وجهاء العشائر ووجهاء المال دور وسيطٍ بين تنظيم داعش من جهة والسكان المحليين من جهة أخرى. وبعد هزيمة داعش غيّر هؤلاء الوجهاء الذين يمكن تسميتهم بفئة “انتهازيون تحت الطلب” موقفهم وأيدوا حكم قسد لمناطقهم شرط استمرار مصالحهم ووجاهاتهم. هذه الذهنية مرتبطة بالضرورة بطبيعة هذه القوى الاجتماعية وموقعها الحقيقي في سلم درجات التطور الاجتماعي، الذي فكك عملياً البنية العشائرية بنسبةٍ ما، وأضعف دورها لمصلحة تجمعاتٍ اجتماعية أو اقتصادية ذات بعد أيديولوجي جديد. لم يدرك هؤلاء الانتهازيون أن دورهم التاريخي الفاعل بصفتهم زعماء للعشائر قد انتهى نتيجة تطورات البنية الاجتماعية السورية، ولذلك هم يعيشون على وهم دورهم القديم، ولا يعتقدون بأهمية ما حدث من تطور اجتماعي في البلاد. ولذلك يقدّمون أنفسهم نماذج اجتماعية تريد الإبقاء على مصالحها القديمة، من ملكيةٍ للأراضي، أو إشغالٍ سياسي واجتماعي لا يمتلكون القدرة على شغله. هذه الفئة الاجتماعية التي انقلبت على تنظيم داعش بعد هزيمته، وجدت نفسها هدفاً معلناً لهذا التنظيم الذي قام بعمليات كثيرة خلف خطوط “قسد” في دير الزور والرقة والحسكة، وعمل على تدبير عمليات خطف لأشخاص، أو هجمات مباغتة غايتها قتل عناصر من هذه الفئة المتقلبة المواقف. ويبدو أن محادثات “قسد” مع النظام الأسدي حرّكت من جديد نوازع الأمل لدى فئة شيوخ العشائر الذين ينتظرون أن يستعيدوا دوراً هامشياً كانوا يؤدونه قبل مرحلة الصراع السوري. ولكن هذه النوازع وضعت أصحابها في حالة قلقٍ جديد نتيجة تأزم الوضع بين قسد وتركيا على الحدود الشمالية السورية. فالخطاب التركي يدعو صراحةً إلى إنهاء الوجود العسكري لقوات سوريا الديمقراطية في تلك المنطقة. وهذا يعني في الحصيلة خسارة قسد نفوذها وسيطرتها، ما يحرّك لدى فئة شيوخ عشائر المنطقة ووجهائها مؤشر ولي النعمة المقبل، هذا التغير في الولاء السياسي وتغير المواقف مرتبط أساساً بموقعهم القديم الذي تأكّل بفعل تطور المجتمع السوي وبناه الاجتماعية والاقتصادية. تشعر هذه الفئة بحالة من الحيرة والقلق نتيجة تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه على سحب القوات الأمريكية من سوريا عموماً ومنطقة شرق الفرات خصوصاً. فانسحاب الأمريكيين يعني خسارة قسد لداعمهم الرئيسي ومن ثمّ ضعف موقفهم واحتمال اندحار نفوذهم. هذه الحيرة تدفع فئة الشيوخ والوجهاء إلى محاولة معرفة ولي النعمة الجديد الذي ما يزال الغموض يلف معرفة من يكون. فالمرحلة المقبلة لم تتضح ملامحها جلياً بعد، والوضع السياسي والعسكري يبدو في منطقة الجزيرة معقّداً، بعد أن اجتمعت مطامع دولية وإقليمية حول هذه المنطقة. هذه الحالة الضبابية جعلت فئة “انتهازيون تحت الطلب” في حالة ارتباك وخوف حقيقي من تبني أي موقف قد يجدون أنهم وقفوه خطأً. إن عزم الدولة التركية المعلن بالقضاء على قوات ووجود حزب ال PYD، واستمرار المحادثات التركية مع كلٍ من الروس والأمريكيين حول ما تسميه تركيا “المنطقة الآمنة” يُبقي الباب مفتوحاً أمام مزيدٍ من مخاوف فئة الشيوخ والوجهاء الذين لم يعد الأفق السياسي أمامهم واضحاً وشفّافاً. إنّ صيرورة التطور السياسي والعسكري في سوريا عموماً، وفي منطقة الجزيرة خصوصاً، تشير إلى تفكك بنىً اجتماعية كانت موجودة، تؤدي بعض الأدوار في مرحلة ما قبل الصراع السوري الذي تفجّر في الخامس عشر من آذار/ مارس عام 2011، وعلى رأس هذه البنى بنى الاستبداد الرئيسية التي تأكلت بفعل الصراع العسكري، وتحتها البنى التي شكّلت ركائز وحوامل للاستبداد مثل فئة “اتنهازيون تحت الطلب”. إن هذه الطبقة الانتهازية ليست حكراً على المنطقة الشرقية الشمالية؛ إنما تجدها في معظم الجغرافية السورية وليست هي حكراً على وجهاء العشائر؛ إنما تتخطاهم نحو شخصيات سياسية واقتصادية؛ كعبتها حيث مصالحها؛ وإيمانها النفاق للأقوى حتى ينهزم؛ لتبدل بطريقة حربائية ولاءها متناسية أن التاريخ لا يرحم، وأن المجتمع تجاوز الذاكرة السمكية؛ وأن تبديل الوسائل لا يعني وضع القيم في بازار مفتوح؛ ولكن القوم يعمهون. إننا نعيش مأساة وجوه المجتمع السياسية والعشائرية والاقتصادية علة من أهم عللها، وأمسينا نفتقد الشخصية التاريخية التي تلتقط اللحظة التاريخية لتتخذ القرار التاريخي، ما يجعلها شخصية وطنية بحق، وتكاثر فينا الانتهازيون تحت الطلب. لكن للتاريخ قوانينه، ولسُنة الله فعلها؛ وسيعلم الانتهازيون أي منقلب ينقلبون؛ فسوريا ليست بحاجة إلى صاحب ولاء قسدي أو تركي أو خليجي ولا حتى أمريكي؛ ولكنها بالتأكيد تحتاج إلى صاحب ولاء سوري ينتفع منه السوريون جميعهم. ولهذا سنرى أفولاً متزايداً لدور الانتهازيين المتقلبين وفاعليتهم في المستقبل الجديد لسوريا. وهذه نتيجة طبيعية لتفكك النظام السياسي وحوامله وأطره، وولادة لنظام سياسي جديد لا يقبل بأي دورٍ لقوى ما قبل وطنية، أثبتت التطورات على مدى عقود من الزمان أنها قوى ضدّ أي تطور اجتماعي أو اقتصادي، باستثناء ما يخدم وجودها وبقاءها، الذي يعدّ هامشياً ونشازاً تاريخياً. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى