fbpx

الحرب اللاعقلانية في سوريا؛ والبحث عن خلاص

حين اختار النظام الأسدي لغة القوة المسلحة ضدّ التظاهرات السلمية، التي عمّت البلاد في عام 2011، كان على قناعةٍ، من أنه اختار حلّه الوحيد، الذي تمثّله بنيته السياسية والأمنية. هذه البنية كانت تمارس الهيمنة الشاملة على المجتمع بغطاءٍ أمنيٍ جبّار. مما منع قوى المجتمع السياسية من إيجاد صيغة عملٍ وطني ديمقراطي، تتحوّل من خلاله مكونات المجتمع السوري الاثنية والدينية والطائفية من واقعها، الذي عتّم النظام الأسدي عليه، إلى قوة ترابطٍ وطنيةٍ حقيقية، ضمن واقع جديد هو واقع المواطنة المتساوية، في مجتمع يحوز على الحرية، ويتمُّ فيه تداولٌ سلمي للسلطة. إنّ استخدام النظام للقوة المفرطة في مواجهة المظاهرات السلمية، سمح في اضطراب النسيج الاجتماعي السوري ذي البنية الفسيفسائية. هذا الاضطراب مع اتساع دائرة عنف النظام العسكري والأمني، ذهب بالأمور إلى تفككٍ تدريجي للرابط الوطني الضعيف أصلاً. وهذا ما دفع بالمكونات السورية إلى صورةٍ من التخندق والخوف والعمل على حماية الذات. مما فتح الباب لهذه المكونات بصيغتها ما قبل الوطنية السورية، أن تُظهر بنية مكونها الخاص بها، التي لن تساعد على بناء الشخصية الوطنية السورية. لذا بدا أنّ القوة الغاشمة للنظام الأسدي، عمّقت بقوة انفراط روابط العقد الاجتماعي السوري. فسادت اعتقادات مختلفة لدى المكونات حسب وضعها التاريخي والطائفي والاثني. وظهرت في الجانب الاثني فكرة إنشاء “حكمٍ ذاتي” بالقوة المسلحة لدى مجموعةٍ سياسية من المكوّن الكردي. هذه الفكرة عملت على تعميق الشك بين مكونات المجتمع السوري بعمومها وبين المكون الكردي، ولم يبق الأمر عند حدود الشك، فقد تعزّزت قيمة انفقاد الثقة في هذا الإطار، وظهر وكأنّ الصراع في هذا الجانب هو صراع بين المكوّن الكردي وباقي مكونات المجتمع السوري، الذي يهدف (أي الصراع) إلى تحقيق مشروعٍ سياسيٍ، تمَّ طلاؤه بصبغةٍ اثنية. لكن هذا الصراع لم يبن على أرضية التناقض بين استبداد النظام الأسدي والمكوّن الكردي، بقدر أنه بُنيَ على أرضية تحقيق مشروعٍ قومي ذاتي بعيداً عن توفر الظروف الملائمة تاريخياً له، التي تسمح بمنح هذا الحق، وبعيداً عن تمتين الروابط الوطنية، التي تخدم جميع المكونات، من خلال عقدٍ اجتماعي وطني يحقق المساواة في الحقوق والواجبات السياسية والثقافية والاقتصادية. ولهذا وكنتيجةٍ لمحور الصراع الذي خاضه حزب PYD، فإن الأمور ذهبت بالصراع إلى عتباتٍ أخرى، بعضها إقليمي، وبعضها داخلي، يُحسُّ بأنّ هذا المكوّن السياسي الكردي يعمل من أجل خدمة مشروعه الخاص ببناء الحكم الذاتي للأكراد. هذا المشروع تعتقد المكونات السورية الأخرى أنه مقدمة لقيام دولةٍ كردية، تتشكّل على مناطق من سوريا ومن دولٍ إقليمية أخرى. هذه الذهنية الكردية الخاصة وممارستها السياسية لم تقرأ تداعيات مشروعها الخاص على المكونات السورية بشكلٍ علمي ودقيق، ولم تقرأ تداعي هذا المشروع على استقرار الإقليم، وما سينتجه المشروع لاحقاً على مستوى الصراعات القادمة، وهو ما حوّل في الدور المنوط بهذه القوة الكردية من خدمة بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية إلى موقع أداة تستفيد منها قوى الصراع الإقليمية والدولية في تحقيق أهدافٍ لن تكون في خدمة المكوّن الكردي السوري. هذه المعادلة هي ذات بعدٍ آخر في الصراع السوري، إذ انتقل هذا الصراع من حلقته الأساسية (ديمقراطية ضدّ الاستبداد) إلى حلقةٍ أخرى هي (صراع طائفي). هذا الانتقال لم يتم فجأة، فجوهر التظاهرات السلمية كان جوهراً وطنياً ديمقراطياً، شاركت فيه فئات ومكونات المجتمع السوري كلها (المكونات الاثنية والدينية والطائفية). الانتقال تمّ حين تحوّل الصراع السياسي مع النظام الأسدي من حلقته السلمية إلى حلقته العنفية. هذا التحوّل يجد تبريراته من خلال عدم وجود قيادة وطنية سياسية واحدة للتظاهرات، تحمل برنامج عملٍ ديمقراطيٍ تحرسه القوى الاجتماعية التي كانت تملأ الشوارع بمظاهراتها. غياب الوحدة السياسية لحركة الاحتجاجات، سمح بالضرورة أن يتلوّن الحراك حسب نفوذ جهاتٍ معارضةٍ في الأوساط التي تتواجد فيها، وتحديداً المعارضة الاسلاموية، التي تلقّت الدعم بكل الأشكال من دول إقليمية ذات أجندات خاصة. هذا التلوّن بدأ يتعمق شيئاً فشيئاً، حتى ظهر بصيغةٍ ذات لونٍ طائفي (سني ضدّ علوي)، أي أن مستوى الصراع السياسي بصيغته الوطنية الديمقراطية تراجع لمصلحة صراعٍ أقلَّ وطنيةٍ، ولا علاقة له بجوهر بناء الديمقراطية، التي تفجّرت من أجلها المظاهرات الشعبية. هذا التراجع لم يكن تراجعاً محدوداً على المستوى الايديولوجي فحسب، بل تمّ على قاعدةٍ من التحشيد الداخلي والاقليمي، فظهر النظام الأسدي بصورةٍ جليةٍ، على أنه نظام استدعى كل القوى الطائفية الشيعية الخارجية، لتقاتل معه، من أجل تثبيت استبداده في حكم البلاد، وهو ما نقل الصراع فعلياً، من كونه صراعاً سياسياً بين حلقتي (الاستبداد والديمقراطية) إلى صراعٍ بين مكونين (علوي وسني) لهما امتدادهما الإقليمي، وهو صراع لا يخدم الرابطة الوطنية الضرورية لنمو وتطور المجتمع والدولة السوريين. الصراع السياسي في سوريا لم يتوقف عند الحدود الجغرافية السورية، وهو أمرٌ أوجد علاقات سياسية ذات طبيعة دينية أو طائفية أو قومية مع أطرافٍ إقليمية ودوليةٍ، تريد استغلال هذا الصراع لغايات تخصّ استراتيجياتها. ولذلك فقد الصراع السياسي السوري محوره الأساسي (ديمقراطية ضدّ استبداد)، ليصبح صراعاً على محاور متعددة مثل محور صراع طائفي سني – علوي. ومحور صراع اثني كردي – عربي ومحور صراع بين الاستبداد والديمقراطية وهو محور يعيش حالياً حالة ضعفٍ. إنّ الانتقال إلى ” فوضى الصراع ” السياسي، الذي حدث في سوريا، كشف عن ضعف بنية قوى التغيير الديمقراطية، التي نزلت إلى الشوارع، لأنها قوىً ليست حاملاً أصيلاً لبرنامج التحول الديمقراطي، أي القوى التي تعبّر عن قوى السوق الاقتصادية الصناعية والتجارية. فهذه القوى الأخيرة (قوى السوق) المتحكمة بحركة وفعالية الاقتصاد الوطني، والمتمركزة في المدن الكبرى حلب دمشق لم تنحز إلى برنامج التغيير الديمقراطي، لأنها ربطت مصالحها السياسية والاقتصادية عضوياً مع بنية نظام الاستبداد، وهذا يتضح من خلال نشاط غرف التجارة والصناعة الكبرى في سوريا. فالبلاد التي لم تقم على قاعدة التنمية الشاملة، سيكون النشاط الاقتصادي الدافع لبناء دولة ديمقراطية نشاطاً في أضعف حلقاته، بينما سيكون النشاط الاقتصادي ذو الطابع الطفيلي والربوي في أقوى حلقاته.  لذلك يمكننا القول أن ما يجري في سوريا حتى اللحظة هو حرب لا عقلانية بين مكونات سياسية وعسكرية خارج وطنية. أي أن اللاعقلانية تشمل بنية النظام السياسية، وبنية القوى التي لا تزال في حالة صراع معه. وللخروج من هذا المأزق ينبغي إعادة الصراع إلى حلقته الأولى (ديمقراطية ضد استبداد). وهو جهد وطني جبّار، يحتاج في البداية إلى الانسلاخ عن كل الأجندات السياسية الإقليمية والدولية. ويحتاج إلى برنامج وطني ديمقراطي تحمله قوى ديمقراطية أصيلة وحقيقية. برنامج يحدّد موقفاً واضحاً وصريحاً من وجود كل القوى العسكرية الأجنبية في البلاد. وأن يعتمد هذا الجهد الوطني على امكانات الشعب السوري بكل تلويناته (الاثنية والدينية والطائفية) من أرضيةٍ وطنيةٍ سورية. هذا الجهد سيزيل الشك بين المكونات السورية ليكون الجميع شركاء في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى