fbpx

العلاقة الكردية العربية في سوريا؛ إلى أين؟ (الجذور والمآلات)

“إن أكراد سوريا موكلون بحقوقهم من داخل البيت السوري؛ بيتهم. من داخل انتفاضة سوريا؛ انتفاضتهم”.

/الأديب والمفكّر السوري الكُردي “سليم بركات”/

أوردنا هذا القول لسليم بركات من دون غيره من أدباء الكُرد السوريين، وهم كُثر، نظراً إلى ما يمتاز به أديبنا من خصوصية تحتلّ حيّزاً واسعاً من اهتمام السوريين من الأطياف كافة؛ القومية والفكرية؛ ما دفع بكبار اللغويين إلى أن يسبغوا عليه صفة “مالِكُ مفاتيح اللغة العربية”.

وبعيداً عن الأمور الأدبية واللغوية، ننتقل الآن إلى الحديث في صلب الموضوع الذي نحن بصدده، المتعلّق بجذور العلاقة العربية الكُردية ومآلاتها في ظل المتغيّرات التي شهدتها وتشهدها الساحة السورية.

  • جذور المظلومية وتحولاتها

مع بدء سيطرة البعث على السلطة في سوريا، منذ عام 1963، بدأت تتنامى مظاهر قمع الحريات الوطنية والسياسية والاجتماعية، ليطال الظلم مكونات الشعب السوري جميعها من دون استثناء، بدءاً من العرب بجميع طوائفهم وتياراتهم مروراً بالكُرد وانتهاءً بالتركمان والشركس وباقي القوميات الموزعة ضمن الجغرافية والتاريخ السوريَّين.

ولا نتحامل حين نقول بأن أكثر المكونات التي عانت ظلم نظام البعث وتهميشه، وعلى الأخص في مرحلة حكم عائلة الأسد، الأب والابن، المكوّن السوري الكُردي.

فالإهمال والتهميش اللذان تعرّض لهما الأكراد منذ بدايات حكم البعث، على صعيد المواطنة والهوية واللغة، أجّج الشعور بالمظلومية، ليس تجاه النظام القائم فحسب، وإنما تجاه كل من يحيط به من منتفعين ومزاودين ومعتنقين مبادئه، من عرب وغيرهم.

ذلك الشيء دفع بعدد من الأكراد إلى الانضمام إلى أغلب الأحزاب والحركات المناهضة للنظام البعثي وأفكاره (القومية العنصرية)، إضافة إلى تأسيس وترؤس عدد منها، ما عرّضهم لاحقاً للملاحقات والاعتقالات، والتصفية، مثال ما حصل للمناضل “مشعل تمو” حين اغتيل في بداية انطلاق الاحتجاجات ضد نظام الأسد 2011.

وبالعودة قليلاً إلى سنوات سبقت اندلاع الانتفاضة، وبالتحديد إلى عام 2004 الذي شهد أحداث مباراة القامشلي الشهيرة؛ إذ شكّلت تلك الأحداث الشرارة الأولى للانتفاضة الكُردية ضد نظام القمع، لا سيما بعد اتساعها لتشمل مدناً من ريف الجزيرة السورية، وحلب وبعض أحيائها، وعلى نظاف ضيّق في دمشق العاصمة.

إلا أن التخبّط الذي حصل آنذاك، إضافة إلى الدور (المخابراتي) الأسدي ولعبه في حرف المواجهة، من مواجهة بين مظاليم الكُرد وظُلّام النظام، إلى مواجهة كُردية- عربية، انخرط في أحداثها بعض أبناء العشائر العربية في مناطق الهيجان، بدعمٍ سافر من أجهزة أمن النظام بعد نشرها إشاعة مفادها: أن الكُرد كانوا يبيّتون لأعمال شغب وتخريب وقتلٍ قبل حدوث تلك المباراة التي كان طرفاها فريقي الفتوة “الديري”، والجهاد “القامشلاوي” المحبب لدى الأكراد.  فقد قمعت التظاهرات بعد أيام قليلة لتعود أجهزة الأمن إلى التضييق على الكُرد ونشاطهم وتحركاتهم؛ فأضحت أحداث القامشلي بالنسبة إلى الكُرد، تشابه تماماً أحداث الثمانينات في حماة بالنسبة إلى العرب وما تلاها من السيطرة الأمنية على مقدرات البلاد والعباد منذ ذلك الوقت.

استمرتّ استفزازات النظام بحقّ الأكراد لتمسّ بعد أشهر قليلة أحد أعلامهم وهو الشيخ “معشوق الخزنوي”، حين أقدمت أجهزة الأمن على خطفه وتصفيته، لتقوم بعد ذلك باختلاق فيلم سيئ الإخراج والتمثيل، يتحدّث عن حالة انتقام قام بها اثنان من مواطني مدينة دير الزور بحق الشيخ “الخزنوي”، قاما بقتله ثم دفنه في مقبرة المدينة؛ ما أدّى إلى اتساع الهوة بين الجارين العربي والكُردي.

تلك الحادثة وتبعاتها، أثارت استهجان عدد من شخصيات معارضة لنظام الأسد وقتذاك، فتصدّت لوأد الفتنة التي زرعها الأخير مرة أخرى بين أبناء المكونين؛ فقَدِم “فايز سارة” بصحبة عدد من ممثلي المعارضة من دمشق متوجهاً إلى دير الزور، حيث التقى بـ”رياض درار” ثم انطلقوا صوب مجلس العزاء في القامشلي لتقديم الواجب وتهدئة النفوس.

عندها، وجّه الشيخ “درار” كلمة للجموع وضّح من خلالها أن ما يربط أبناء الكُرد مع العرب هو أكبر من تلك الحادثة، وتخللت كلمته عبارة “إن ثأركم ليس معنا، نحن الديريين أو العرب عموماً، بل مع النظام” في إشارة واضحة إلى أن النظام هو من كان وراء وفاة الشيخ معشوق. وحالَ عودته إلى دير الزور قامت المخابرات باعتقاله.

وبالعودة إلى الشخصين، وهما من أتباع الطريقة الخزنوية، وقصة اعترافهما بقتله ودفنه من خلال مقابلة مفبركة عبر تلفزيون النظام، نشير إلى نقطة ما زال يجهلها كثير من السوريين، وهي أن التصوير قد عُرض على شاشات التلفزة بعد إنجاز المهمة -وتهريب النظام للشخصين المذكورين إلى ألمانيا- بأيام قليلة، وما يزالان فيها حتى اللحظة.

  • الانتفاضة والتحولات

بعد قيام الانتفاضة السورية، ومشاركة الأكراد السوريين في التظاهرات المنددة بالنظام السوري، والمطالبة بإسقاطه؛ حاول الأخير استمالتهم من خلال منحهم بطاقات هويةٍ سوريةٍ كان قد حرمهم منها ومن حقّ المواطنة، طوال أكثر من أربعين عاماً.

إلا أن تلك الخديعة لم تنطلِ على الأكراد، وظلّوا يشاركون جيرانهم العرب في التظاهرات الشعبية مطالبين بإسقاط نظام الأسد على امتداد الجغرافية السوريّة، من عامودا إلى عين عرب إلى ركن الدين الدمشقي؛ هكذا حتى بدأت تظهر في الساحة السورية بوادر العمل المسلح ثم التشكيلات الجهادية الإسلامية المتشددة وآخرها تنظيم “داعش”، تلك التشكيلات التي أثبتت الأيام اختراق معظمها من قبل إيران والنظام السوري، وتجلّت بوضوح بعد بروز ظاهرة (الضفدع) في الغوطة الشرقية.

ظهور تلك التشكيلات، وأغلب عناصرها من المكوّن العربي، ساهم بشكل أو بآخر، في بروز نشاط حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd) و”قوات حماية الشعب الكردية” رَدّة فعل عكسية عند فئة من (المؤدلجين) وغيرهم من أبناء المكوّن، لا سيما أن معظمهم ينتمون إلى تيارات علمانية قومية ويسارية.

ذلك التشدّد الديني للفصائل من المكوّن العربي، أوجد تطرّفاً يسارياً لفصائل المكوّن الكُردي.

  • الواقع والمآل والمأمول

اليوم، وبعيداً عن مساحة الأراضي التي تسيطر عليها قوات “قسد” ذات الإدارة الكُردية تشاركها العناصر العربية من أبناء العشائر في الجزيرة السورية، وبعيداً عمّا يشوب بعض الأماكن المسيطر عليها من أخبار تخصّ تغييراً في واقعها الاجتماعي والديموغرافي، وكل ذلك يكتنفه كثير من  التشويش نتيجة المواقف والميول السياسية والتحالفات المتضاربة بين الطرفين، العربي والكُردي التي لا تخلُ من حسّ قومي أو عرقي عنصري عند بعض العوام من أبناء الفريقين.

بعيداُ عن كل ما سبق، هل يمكن التصديق بأن المواطن الكُردي السوري هو “داعشيّ” من نوع آخر، متشدّد ومتعصّب يهوى التهجير والقتل والذبح وتعذيب الناس، كما تحاول بعض الفئات تعميم تلك الفكرة الجاهلة؟

ببساطة واختصار شديدين: من عاشر الأكراد في سوريا يدرك مدى طيبة معشرهم وبساطتهم التي تصل إلى درجة الذوبان؛ وباستثناء قلّة قليلة من الأطراف السياسية والعسكرية، كالموجودة لدى الطرف الآخر، لا نستطيع محض التخيّل بأن الأكراد عموماً يقفون في صف عصابة النظام أو يساعدونه في قتل الشعب السوري، فهم أكثر الذين عانوا ظلم النظام وتجبّره وقمعه ودمويته وحرمانه من هويتهم وانتمائهم.

أما إن كنا نريد محاكمة الكُرد، بالمجمل، سياسياً وعسكرياً، فعلينا الانتباه قبل ذلك إلى أن جميع المكونات السورية في الداخل والخارج اليوم يخوضون في لعبة السياسة والتحالفات التي فرضتها عليهم حالة الحرب، فضلاً عن تعنّت النظام سياسياً وعسكرياً ورفضه الحلول المتاحة كلها التي من شأنها إنهاء الحرب ورأب الصدع بين الأطراف كافة.

إن أشدّ ما نحتاج إليه اليوم هو طرح مشروع وطني جامع، يقوم على مبدأ الحرية والعدالة والديمقراطية، ويشكّل البوصلة التي تحدّد مدى تقبّلنا لمفهوم “المواطنة” بصورته الصحيحة مستقبلاً؛ وذلك كله لن يتحقّق في ظل استمرار الصراع والحروب الدائرة.

لكن، حالَ العبور إلى مرحلة الانتقال والاستقرار السياسي والاجتماعي، سيدرك السوريون، كُرداً وعرباً، أن النظام قد ضحك عليهم جميعاً خلال السنوات الماضية.

مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى