fbpx

المسالة القاديانية من جديد

دعوة إلى الحوار لا تحظى المسألة القاديانية باهتمام كاف في البلاد العربية والشرق الأوسط وتتلخص في الذهن الشائع أن رجلاً هندياً ادعى النبوة قبل مائة عام وأخذ أتباعه بعيداً عن الإسلام وأسس ديناً جديداً يتبعه فيه اليوم عدة آلاف، ونقلوا الحج من مكة إلى قاديان، وقد حققوا نجاحهم بفضل الحكومة البريطانية لأنهم دعوا الى التصالح مع الاستعمار البريطاني وأنكروا الجهاد. وتعتبر هذه الدعاوى للأسف مسلّمات عند كثير من الإسلاميين على الرغم من النفي المتكرر، وقد بنيت على قرار واضح وصريح صدر عن رابطة العالم الإسلامي في مكة 1974 ينص على أن القاديانيين كفار ويجب أن يعاملوا معاملة المرتدين… ولكن هل المسالة بهذه البساطة، وهل من العقل إدارة الظهر لهذه الحركة الإسلامية التي تعد الملايين، ويتأكد حضورها بشكل خاص في أوربا، وتضم مجموعة من الأكاديميين والبرلمانيين، ولها خطاب إعلامي متقدم في القارة الأوربية وحضور فعال ومتنام في الوسط الأفريقي. بعد مرور قرن ونصف على انطلاق الحركة بات من المؤكد ان الجماعة تصر على هويتها الإسلامية على الرغم من حملات التكفير، وقد أنجزت ترجمة كاملة للقرآن الكريم إلى 74 لغة في العالم، ولديهم وجود مسجل في أكثر من مائة دولة في العالم، وهم يصرون أنهم أحناف سنة، ويلتزمون آداب الحنفية في اللباس والحجاب ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت وفق المذهب الحنفي أصولاً وفروعاً. لقد أثار اهتمامي بهذه الحركة الدينية أن مؤتمرات حوار الأديان التي باتت شغل الناس اليوم تجمع الناس من مختلف الفئات والألوان والأديان، وبات من الطبيعي ان يكون فيها الهندوسي واليهودي والبوذي ولكن من المستحيل  وجود حضور قادياني، وفي السنوات الأخيرة حضرت مؤتمرات أديان برعاية دول خليجية وعربية شارك فيه ممثلون لديانات ومذاهب لا يبلغ أفرادها المئات ولكن ظل هذا الباب مقفلا بشكل شبه كامل في وجه القاديانيين. ومن جانب آخر فلم تعد هذه الحركة ظلاً هامشياً في المشهد الإسلامي اليوم بل إن وجودها المؤثر في أوربا عموماً، وصوتها الإعلامي المسموع، وانخراط زعماء منها في البرلمانات الأوربية نواباً ووزراء ورؤساء بلديات منها لندن نفسها، كل ذلك يدعو إلى فتح حوارات جادة مع هذه الجماعة. إضافة إلى ذلك فإن النجاح الهائل الذي حققته الجمعة في أفريقيا مستفيدة من فتح الباب للمؤسسات التبشيرية في غمار التعليم والتربية قد وفر للقاديانيين انتشاراً كبيراً في أفريقيا، حيث تجمع المراصد المختلفة أن القاديانيين هم أكثر الفرق نمواً في أفريقيا، ويتحدث إحصاء جيمس باول  في كتابه عالم المسلمين: الوحدة والتنوع عن أرقام مدهشة في القارة الأفريقية حيث يبلغ الأحمديون في نيجيريا 2.8 مليون وفي تنزانيا 2.5 مليون، وفي عموم أفريقيا أكثر من سبعة ملايين. وبعد مرور مائة وعشرة أعوام على رحيل مؤسس الجماعة فان المدهش أن الجماعة لا تزال ملتزمة إلى الغاية بالعقيدة والفقه وفق مذهب الجمهور ولم تخالفهم إلا في مسالة تأويلية واحدة وهي وفاة المسيح عليه السلام، واعتبار أن الظهور الموعود هو لرسالته ومشروعه وفكره وليس لجسد عيسى بن مريم الذي توفي وفاة عادية بعد نجاته من الصلب وذلك عام 33 م وفق ظاهر الآية الكريمة: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي، ووفق ظاهر الآية على لسان السيد المسيح: فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم. ويعتقد القاديانيون أن البشارات التي وردت عن ظهور مسيح موعود أو المهدي المنتظر تنطبق على السيد ميرزا غلام أحمد المولود في قاديان حيث هو رجل شديد التعبد والالتزام وكان واعظاً مؤثراً، وقد اعتنق الإسلام على يده ألوف من الناس وبات رجلاً قوي التأثير في الدولة الإسلامية الناشئة في باكستان. ويتقبل كثير من القاديانيين فكرة أن يتعدد المسيح والمهدي وان يكون لكل مجتهد نصيب، ومن ثمارهم تعرفونهم. وفي الواقع فإن الفكرة التي تنص على خلود السيد المسيح وأنه لا زال حياً بروحه وجسده، وأنه سينزل مرة أخرى إلى الأرض هي قول الجمهور وهو الفكرة الشائعة في الثقافة الإسلامية وعادة ما نستدعيها في الحوار الإسلامي المسيحي للتعبير عن حب المسلمين للسيد المسيح وقدسية رسالته، وهي بالجملة رأي السلفية والأشاعرة، وهو ما تتبناه المدارس الشرعية التقليدية. ولكن الأمر في الواقع لم يعد يحظى بتلك الشعبية بين المسلمين وصار رأي ابن عباس القائل بوفاة السيد المسيح أكثر شهرة في العالم الإسلامي وقد تبنت المدرسة الإصلاحية أيام الشيخ محمد عبده هذا الرأي وبات الحديث عن خلود المسيح وعودته محض رأي في العقيدة إلى جوار آراء أخرى أكثر اشتهاراً وأقرب إلى روح العقل والواقع والمنطق الذي يرجح موت الجسد البشري وتهالكه مع الزمن، وفق ما أخبر القرآن الكريم: كل من عليها فان، وكل نفس ذائقة الموت. والقول بوفاة المسيح الأول بعد نجاته من الصلب هي أيضاً فكرة قديمة لها أصحابها في كتب التفسير الأولى، وبهذا المعنى تكون عودة المسيح المذكورة في كتب الرواية هي رمز لحضور رسالته في أشخاص آخرين وليس لحضور ذاته، وهذا الرأي منسوب إلى جماعة من السلف وينقله الامام البخاري في صحيحه في كتاب التفسير وابن جرير الطبري والبغوي وابن المنذر والسيوطي من كلام ابن عباس الذي نص بوضوح على وفاة السيد المسيح بعد فترة من نجاته من الصلب. تحمل الجماعة رؤية خاصة في مسألة المهدي والمسيح المنتظر، خلاصتها أن رسول الله محمد هو خاتم الأنبياء، وقد أخبر أنه يظهر رجل مسلم في آخر الزمان يدعو إلى القرآن والسنة، وينتشر ذكره في الأرض ويعتنق الإسلام بفضله كثير من الناس…. وتتردد العبارة بين أتباع ميرزا غلام أحمد بين اللاهوريين الذين اكتفوا بدوره كمصلح ومرشد تحققت فيه صفات المهدي وصفات المسيح، وبين جمهورهم الأكثر الذي كان يرى أنه يوحى إليه، ولكن الفريقين ملتزمان بأنه لا يغير شيئا من شريعة النبي الأكرم بل يتبعها بحذافيرها ويدعو إليها. كان يمكن لهذه الفكرة أن تمر بشكل طبيعي، فعقيدة القوم في المهدي المنتظر ليست أزيد من عقائد الصوفية في الأقطاب والأوتاد ووالأغواث والمدّرّكي الكون، وقد صرح ابن عربي والشعراني بالنص حول هذا المعنى، فقال في الفتوحات الملكية: الباب الثالث والسبعون (لم ترتفع النبوة بالكلية، وإنما ارتفعت نبوة التشريع وهذا معنى قوله لا نبي بعدي، أما من حفظ القرآن فقد استدرجت النبوة بين جنبيه) وهو لون من النبوة الباقية كما قال، وليست أكثر من العقيدة النقشبندية التي مارسناها طويلاً في الرابطة الشريفة حيث يكون الشيخ بابك الى الله ولا يمكنك أن تبدأ صلاتك ولا ذكر الله من دون استحضار صورته، وليست أزيد من عقائد إخوتنا الشيعة في الأئمة المعصومين، وليست بالطبع أبعد من عقائد إخوتنا الدروز والاسماعيلية والعلاهية والكاكائية والشاباك وغيرها من الفرق الإسلامية التي تدعى اليوم إلى مؤتمرات الأديان وتتصدر المنصات. ويمكن تلخيص أهم الاتهامات في نقطتين اثنتين:

  • الأولى: أنهم يقولون بنبوة ميرزا غلام أحمد، وأنه ناسخ لنبوة رسول الله.
  • الثانيـة: أنهم أفتوا بتحريم الجهاد في الهند ومالؤوا البريطانيين

ومع أنني لا أستطيع في المسألة الأولى الدفاع عن نبوة جديدة بعد خاتم الأنبياء، ولكنني قرات لهم بوضوح كامل أنهم يؤمنون برسول الله خاتماً للأنبياء والمرسلين، ويقرون بأنه لا نبي بعده، ولكنهم يبالغون في وصف مكانة السيد ميرزا غلام أحمد القادياني، فمنهم من ينسب إليه الوحي ويقول بانه نبي رسالته القرآن وقدوته الرسول محمد وغايته تبليغ دعوته، ومنهم من يقول بل هو مصلح كبير، ولكن الجميع متفقون أنه لم يغير حرفاً واحداً من القرآن أو من السنة، وأنه مأمور ان يتعبد الله باتباع رسول الله وهدي رسوله وأصحابه الكرام. ويتلخص اعتقادهم أنه تنطبق عليه أوصاف المهدي الموعود والمسيح المنتظر، مع اتفاقهم أنه ليس المسيح نفسه الذي مات قبل ألفي عام، وإنما هو رجل على خطاه وهو متبع للقرآن والسنة، ولا يجيزون في القرآن الكريم أي نسخ بالكلية. أما موقفهم من الجهاد فلا أعتقد انه يختلف عن موقف الفقهاء المستنيرين، الذين ميزوا بين جهاد الطلب وجهاد الدفع، فجهاد الدفع باق وقائم تمارسه الدول في الدفاع عن أوطانها، أما جهاد الطب الذي كان ينطلق لتبليغ الرسالة وإدخال الناس في الإسلام عن طريق الخيار الثلاثي الإسلام أو الجزية أو السيف فهو خيار بات من الماضي ولا تمارسه اليوم أي دولة إسلامية، والجميع بلا استثناء يرفض هذا اللون من الجهاد الذي مارسته داعش وطبقته في السنوات الأخيرة، وعاد على المسلمين بأفظع الكوارث والمصائب والبلايا. وحتى في سياق تحرير الأوطان فقد تم ذلك في الجزائر بمليون شهيد ولكنه تم في بلدان إسلامية أخرى بالحوار والتفاوض والانسحاب التدريجي، الهند وباكستان والامارات ومصر وتونس، ولا يوجد أي سبب لاعتبار خيار التفاوض للجلاء وتحقيق الاستقلال خياراً كافراً يلعن الجهاد. لقد كان يمكن أن تبقى هذه الفرقة في حضن الجماعة المسلمة فهم أهل قبلة وأهل توحيد، يتبعون المذهب الحنفي بكل تفاصيله، ويلتزمون عقيدة السلف في عدالة الصحابة جميعاً، والإيمان باركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة دون أي اجتهاد فيها. ولكن مكر السياسة قذف بهذه الطائفة في أتون آخر، وحين اندلع التنافس في الدولة الباكستانية الأولى 1947 كان ظفر الله خان وزير الخارجية وممثل باكستان في عصبة الأمم رجلاً قاديانياً، إضافة إلى مئات المسؤولين الكبار في الدولة، ولم يتأخر الصراع حين بدات صيحات المتشددين تتعالى لمواجهة مفتوحة مع الحركة القاديانية، وارتكب الفريقان أعمال عنف دامية، وانحاز بوتو ضد القاديانيين، ثم اختار البرلمان أيام بوتو موقفا متشدداً أفتى فيه بكفر الطائفة الأحمدية، ومن العجيب أن يتولى برلمان دولة عصرية منح الإيمان والكفر لمواطنيه، ولكن الأسوأ من ذلك أن الحكومة طارت بالطلب إلى مكة ونجحت في إقناع رابطة العالم الإسلامي بكفر الأحمديين، وباتت تنص في جواز السفر مذهب حامله، وبذلك فقد منعوا من الوصول إلى البيت الحرام بحكم كونهم مرتدين، وازدادت الشقة بعداً وريبة، وانقطع الحوار تماماً بين القاديانيين وسائر الأمة منذ خمسة وأربعين عاماً ، ولا يزال. أعتقد أن قرار تكفير الأحمديين هو قرار التكفير الوحيد الذي تصدره دولة برلمانية وتقره رابطة العالم الإسلامي! وهو حالة ليس لها نظير، ولا تعكس أبداً قيم الشريعة الإسلامية في احترام الخلاف والحوار. أتابع بين الحين والآخر ما يكتبه العشاق الأحمديون عن الروضة المشرفة للرسول وعن الصفا والمروة والحجر والمقام، وهم يتسللون إلى مكة والمدينة ليعيشوا نفحاتها الروحية الطاهرة، ويتغزلون بمكة والمدينة شعاباً وهضاباً وسكاناً، ويشعرون أسى الحب من طرف واحد وشوقهم إلى وصال مع الأمة التي يحبون. هل يمكن أن تبدأ حملة وعي جديدة تقوم على أساس النوايا الطيبة من الطرفين، فيوضح الأحمديون موقفهم من ختم النبوة بعبارات أكثر وضوحاً وحسماً، ويعمل الجمهور على رأب الصدع، والتحول إلى فتاوى التسامح والإعذار بدل فتاوى السياسة والثار، والاعتصام بقوله تعلى وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون؟ مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى