fbpx

العلمانية والدين؛ الدين منظوراً من ثلاثة أبعاد

يبعث الحوار المحتدم بين نخبٍ مثقفةٍ علمانية وإسلامية -حول مفهوم العلاقة بينهما- إنذارات سوء فهمٍ كبيرة. هذه الإنذارات هي نتيجة طبيعية ومنطقية يمكن إرجاع أسبابها إلى اختلاط المعرفي بالأيديولوجي. ويتعامل العلمانيون والإسلاميون على أن مصطلحي العلمانية والإسلامية هما مصطلحان مستقلان، كل منهما بماهية خاصة منفصلة بوصفها منتجاً لغوياً ومعرفياً، ثم التوافق على معناه، فيصير كل منهما جزء من الماضي. العلمانية بحسب التعريف المدرسي هي الفصل بين الدين والدولة، ويتوسل المعنى بأن كل إشراكٍ للدولة مع مضامين قداسية لديانة من الديانات جزئياً أو كلياً هو تورط بتبني أساسيات أو فرعيات معتقدية لدين من الأديان من قبل مؤسسة الدولة. لذا فإن اختلاف المفهومات مع بعضها يجعل إمكانية التحاور تبدو عملية مستحيلة. ويمكن القول إن أي دين من الأديان كان ظهوره يتوافر على ثلاثة منظورات، ونقصد بالمنظورات ذلك الملموس الواقعي من حقيقة الدين. ومقدار اقترابه من أفراد المجتمع أو ابتعاده عنهم. المنظور الأول للدين (الدين بوصفه معتقداً). المنظور الثاني للدين ( الدين بوصفه ثقافة جمعية متوارثة). أما المنظور الثالث للدين فيتجلى بـ(عدّه مؤسسة رسمية متحكمة).

  • المنظور الأول للدين (الدين بوصفه معتقداً)

هو ذاك الذي يشتمل على العقائد الدينية، ودرجة قوة هذه المعتقدات أو ضعفها، أو خبوها واشتدادها، وقوة الإيمان بها في أنفس الأفراد، أو درجة سطوة هذه العقائد وتأثيرها في وجدان الأشخاص، أو استحواذها على سرائرهم ومخيلتهم، ومقدار تفاعلها في أنفسهم، في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية.

  • المنظور الثاني للدين (الدين بوصفه ثقافة جمعية متوارثة)

هو ثقافات الماضي القريب والبعيد، وتراكماته ذات الصلة بالدين. يؤدي المنظور الثاني للدين (الدين ثقافة جمعية)، دوراً رئيسياً في تشكيل الهوية الجماعية لشعب من الشعوب، أو لمجموعة من الناس، فهو كالمادة اللاصقة التي تربط الناس ببعضهم وتجمعهم في حزمة، وتُعَرِّفهم شعباً أو قومية، وهو ما لا يستطيعه المنظور الأول (المعتقدي)، ولا المنظور الثالث (المؤسسة السياسية أو الاجتماعية، إذ تبدو تقاليد الأعياد الدينية وطقوس شهر رمضان والصيام والإفطار والسحور ومواسم الحج والعادات الدارجة في الزواج والولائم والجنائز، وزيارات القبور وتلقين الموتى وختان الأطفال، وعبارات كثيرة تشارك هذه الطقوس في التمني والاستقبالات والتوديع، واستهلال اللقاءات العامة والخاصة، تشارك الدين أو يشاركها في هذه الطقوس والثقافات المحلية كلها ذات الاعتياد الجماعي المنحدر من ثقافة دينية.

  • أما المنظور الثالث للدين فيتجلى بعدّه مؤسسة رسمية متحكمة

مؤسسة معترف بها من المجتمع والدولة، أو من التنظيمات والمؤسسات والأحزاب والتجمعات المدنية الأهلية التي أملتها الحضارة الإنسانية. (وهو ما سوف أدعوه بمنظور الدين بوصفه مؤسسة رسمية من خلال المجتمع والسياسة). من خلال تقسيم الدين إلى هذه المنظورات الثلاثة، هل كل دين واحد هو في الحقيقة ثلاثة أديان منفصلة في تجليها الحسي الشعوري، ومتصلة في واقع لا تمايزها الحدسي واللاشعوري؟ يمكن أن نقول إن هناك ثلاثة أديان، أو هي ثلاثة في واحد، أو هي الواحد المنشطر إلى ثلاثة. أو بتعبير آخر: هل الدين -أي دين على ظهر الأرض- هو ذلك الشيء الثلاثي الأبعاد الذي ليس بوسع باصرتنا التخيلية أن تنظر إليه إلا بوصفه شيئاً واحداً، ويصعب كثيراً على الحاسة والعقل معاً، أن يفردا هذه الثلاثة الملتحمة، كطيف الموشور الضوئي، إلى أجزائها الواقعية المنفصلة، سواء كان ذلك كله نوعاً من التنفل في القول، أم استطالة في التعابير، فإن الدين -أي دين- بوصفه موجوداً واقعياً، لا يعدو أن يكون على وجه الحقيقة ملتقى هذه الثلاثة في المخيال العام للشعوب الإنسانية جميعها. قبل أن نتقدم بالفكرة خطوة إضافية، سوف نؤكد ملاحظتين مهمتين: الأولى هي أن المنظور الأول للدين هو حاجة إشباعية فردية، بالمعنى الذي يتعذر -حد الاستحالة- نقله من مجاله الفردي إلى مجال جمعي، مثلما أن المنظور الثالث، هو جمعي بالمعنى الذي يتعذر أيضاً -حد الاستحالة- نقله من مجاله الجمعي إلى مجاله الفردي. أما المنظور الثاني، فليست صفة الفردية أو الجمعية أصيلة فيه إلى حدود الثبات، فهو متلون متبدل، وله قابلية جدلية على التطور وتعدد الصيغ، وكسب خصائص جديدة، يصح أن تكون رهناً بالأفراد والجماعات على حد سواء. أما الملاحظة الثانية، فهي أن هذه المنظورات الثلاثة للدين، لا يمكن أن تعمل إلا باستقلالية تامة عن بعضها. إذا أقررنا بالتوافق على استقلالية منظورات الدين عن بعضها، فإننا بالبديهة سوف نطرد فكرة أو ريبة متحصلة لدينا بأنه من الممكن أن يحل بعضها محل بعضها الآخر، أو ينوب عنه، فكما أن “أ” لا يمكنها قطعياً أن تحلَّ محلّ “ب”، أو “ج”، كعناصر طبيعية كاملة الاستقلال، كذلك فإن هذه المنظورات الثلاثة، يتعذر عليها أن تنحلَّ في بعضها وفيما بينها، أو أن تتطور بوصفها تكويناً بنيوياً خاصاً بكل منظور، بحيث يحيل هذا التطور الثلاثة إلى واحد. من هنا علينا أن نسبق بالأسئلة والاستفسارات الآتية: هل العلمانية المقصودة، موضوع مناقشة النخب الفكرية والثقافية والسياسية، السورية والعربية والشرق أوسطية التي تلجأ عادة إلى تعريفها الكلاسيكي؛ بأنها فصل الدين عن الدولة، هي علمانية مميزة لهذا الفصل بين هذه المنظورات الثلاثة مجتمعة، أو هي قاطعة بالفصل لبعضها عن بعض؟ وهل قامت الأمم المتقدمة والمتحضرة اليوم التي رسخت العلمانية، بوصفه مبدأ عاماً، يؤسس للدولة الحديثة، بفصل بعض منظورات الدين الثلاثة عن الأمة والدولة، أم بفصلها جميعاً عن الأمة والدولة؟ الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي معظمها، وتركيا والهند وماليزيا وأندونيسيا والبرازيل وحتى إسرائيل، على سبيل المثال لا الحصر، هي الدول التي تُحسب عادة من أوائل الدول الرافعة لشعار علمانية الدولة والمشجعة عليه، أو التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة ومن نفوذ، لأن تتوسع في مفهوم العلمانية وتحض عليه وتشجعه، سواء في الداخل بين مواطنيها، أم في الخارج من خلال شبكة ثقافاتها وعلاقاتها الدولية المتشابكة. ولن يصعب علينا اليوم أن نلاحظ أن دساتيرها وقوانينها الراسخة (جميعها من دون استثناء) تقف من المنظور الأول للدين موقف (الحياد) وتعده ضرباً من حقوق الأفراد وحريتهم الشخصية، شأنه في ذلك شأن أحلام مواطنيهم الخاصة بهم وحدهم، وخفية طواياهم وضمائرهم الشخصية. أما من حيث المنظور الثاني للدين، فإن هذه الدول العلمانية، في مثالنا السابق، توليه أهمية وعناية خاصة، وتحتفي به بوصفه جزءاً من تراثها السالف وثقافتها المتصلة بالحاضر. أما المنظور الثالث للدين، فإن هذه الدول جميعها، (وأشدد على مفردة الدول وليس المجتمعات)، تُحيِّده وتعزله بحدة وصرامة، وتحاذر أن تصطبغ دولها الحديثة بأي صبغة من شأنها أن توصف بأنها، في الكل أو الجزء، قد سمحت بتسرب أي أثر للدين (في تجليه كمنظور ثالث)، للدولة وأجهزتها وتشريعاتها ومؤسساتها أو إنفاقاتها من مواردها المالية على مؤسساته، أو مخططاتها القريبة أو البعيدة. وكما أن المنظورين الثاني والثالث يمكن توثيقهما تاريخياً، فإن المنظور الأول –بخلافهما- لا يمكن توثيقه أو رصده أو رسمه أو حصره في منظومة مبينة. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا”

هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى