fbpx

كيف بقي العقل العربي خارج النص

فشل العقل العربي في الانسجام مع روح الحضارة المعاصرة، كما فشل في صناعة استراتيجية خاصة تساعده في التفكير السليم، للنهوض من الأزمات التي عصفت به، على نقيض غيره من الأمم التي عانت من ويلات حروب قاسية، لكنها نفضت غبار تلك الحروب ووضعت نفسها على المسار الصحيح، والأمر بالطبع لا يتعلق بالدول التي دمرتها الحربين الكونيتين فحسب وإنما نحن أمام مشاهد معاصرة، فثمة دول نهضت في الثلث الأخير من القرن الماضي، واستطاعت على الأقل ان تبدأ مشوارها، وهي عديدة، بينما تأخر العرب كثيراً، فهل كانت المشكلة بنيوية داخل العقل العربي ذاته؟.

أوهام خصوصية العقل العربي

هناك صورة بائسة عن طريقة التفكير العربية، حاول العديد من المفكرين العرب تأصيلها، ومحاولة إثبات أن العرب لهم خصوصية، لا يمكنهم الانطلاق إلا من خلالها، فتم إقحام الدّين أحياناً، وأحياناً أخرى كانت تقفز السياسة إلى الواجهة لمحاولة إثبات أننا متميزون، ونملك تفرداً خاصاً بنا، يمكننا بواسطته صناعة خصوصية تتيح لنا الوقوف إلى جوار عمالقة الأمم،

والواقع أننا كنا نعيش حالة من وهم الخصوصية دفعت العقل العربي إلى حالة من العزلة، أو التوجه الانعزالي، الذي أبقى العقل العربي خارج السياق المتصل الذي كان يؤسس لنهضة كونية جديدة، كان العرب قد استفادوا منها نسبياً في حقبة محمد علي في مصر، ثم افتقدوها لاعتبارات سياسية، والواقع أن الإبداع الإنساني ليس فيه خصوصية وتميّز في العقل، وإنما هو نتيجة مساحة واسعة من الحرية للعقل، ومثال ذلك أن الحضارة الإنسانية المعاصرة والمراكز البحثية التي تنتج كل يوم مزيداً من الابتكارات العلمية، هي ليست نتاج دولة أو عرق أو ديانة معينة، لكنها نتاج مساحة الحرية، وحجم الإمكانات المتاحة للبحث العلمي فحسب.

التفكير خارج النص:

الخروج عن النص هي واحدة من أعمق الأزمات التي واجهت العقل العربي، فعندما أراد الخليفة العباسي هارون الرشيد شق قناة تربط البحر الأحمر والبحر المتوسط من منطقة الفرما* (قناة السويس لاحقاً) واجه معارضة في ذلك الزمن، واقنعه الحاضرون في مجلسه أن الرومان سيسهل عليهم الأمر ويصلون إلى مكة ويخطفون الحجيج، مع أن هارون الرشيد هو ذاته الذي كسر الأسوار عندما تواصل مع شارلمان.

الحكمة هنا، أن هناك من يسعى دائما للتأثير عليك لكي يبقيك داخل دائرة النص التي ينتمي اليها، لكنك عملياً ستجد نفسك متأخراً وقد خرجت من سياق النص تماماً الى المجهول.

التفكير الضيق في العقل العربي لا ينتمي فقط لمدرسة السلطة، وليس صحيحاً دائماً أن عدم قدرتنا على حل إشكالية السلطة هي السبب في تأخر العقل العربي عن النهضة. فالأزمة موجودة بشكل أعمق من ذلك، فنحن لم نستوعب حقة الاستعمار، ولا الانتداب، ولا قبلها، ولا بعدها، فنحن وفق رأي الإسلاميين مجرد أمة يستهدفها (الغرب الكافر) لأجل دينها، ونحن عند القوميين، مجرد صورة مشوهة متناقضة للبنية الثقافة، لأننا ننتمي إلى قومية مميزة، قادرة على مقارعة الغرب والانتصار عليه، وهي بالطبع تلك الأفكار التي أرستها الحقبة الناصرية في مصر وانتشرت عربياً، ثم أعادت انتاجها بصورة اكثر تشويها في الحقبة البعثية في سوريا والعراق، أو هي حقبة الإسلام السياسي الذي أطل بنظريات لم تعدنا فقط إلى زمن القرون الوسطى، لكنها نظريات بنت مزيداً من الأسوار بين الشرق والغرب.

بشكل أدق، فاليسار العربي الذي فشل في إدخال الشيوعية إلى بلادنا بسبب عوامل الدين، غير أنه نجح في إدخال الفكر السياسي القادم من كابوس الاشتراكية إلى بلادنا، وهو ما أضاع بريق الرؤية الواضحة، خصوصاً عندما ركب القومجيون موجة الثقافة، ممثلين بجمال عبد الناصر، الذي أدخل العرب في وهم الانتصار الموعود على الغرب، وتلاه أو ترافق معه حراك الإسلام السياسي الإخواني في مصر، ثم انتقل بنا الأمر إلى فلسفة بن لادن، ومن ثم داعش، ولا يزال الطريق مفتوحاً لمزيد من العزلة عن استيعاب دروس الحضارة.

مفاهيم خاطئة عن مواكبة الحضارة

هناك مفاهيم خاطئة حول مسألة اللحاق بركب الحضارة، ما تزال متداولة حتى يومنا الحالي، حيث نضع ما يسمى بالمنظومة الأخلاقية الشرقية كمبرر ظاهري للتهرب من مسؤولياتنا الاجتماعية (والأخلاقية تجاه شعوبنا) أو نختفي وراء نظرية المؤامرة، التي هي بالأصل مجرد نظرية يصنعها المستبدون لكي يستمروا بالإمساك بمفاصل الحياة لإنسان بلادهم.

المفهوم الحقيقي للحضارة هو القبول بالمشاركة في هذه الحضارة، ويعني ذلك، القبول بقوانين هذه الحضارة القائمة على وجود بيئة تسمح لحركة الإبداع أن تسير بحرية كاملة، وعدم تعقيد هذه الحركة بالقوانين المحلية، وهو ما يعني إتاحة الفرصة للمواطن بالمشاركة بهذه الحضارة من داخل بلدانهم، وما دون ذلك فإن المبدعين سيلجؤون للهجرة بحثاً عن فرصة مشاركتهم بهذه الحضارة في مكانها خارج وطنهم.

المسألة بالضبط هي مثل ألعاب الأولمبياد أو المسابقات الدولية، فعندما لا تسمح بدخول هذه المسابقات إلى أراضيك، فمن الطبيعي جداً أن يسافر بعض الأفراد الذين يملكون المقدرة لكي يبحثوا عن فرصة لهم في الخارج، وعندما ينجحون بذلك، فمن المؤكد أنهم لن يعودوا الى التصحّر الثقافي الموجود في بلادهم.

تحت مستوى الوعي

الوعي هو مسألة اختيارية تساهم الدولة في صعوده أو هبوطه، فعندما يتم حصر الوعي العربي في استكشاف مواهب الزعيم الحاكم، فنحن أمام صورة مجتمع قروسطي أسير للزمان والمكان وغير قابل للصعود، خصوصاً عندما يتحول القائد السياسي إلى مفكر وملهم وعظيم، وغير ذلك، ثم يجد جيشاً من المثقفين يشاركونه الاستمرار بهذه المهزلة، أو عندما يساهمون في إغراق الإعلام أو حتى التعليم بملفات تحاكي عبثية السياسة، وهو ما ينتج عنه حالة من التمايز الحقيقي، لكنه ذلك التمايز الذي يطفو على مستنقع من الجهل.

تماماً يتساوى الأمر، عندما يكون هناك من يريدها إمارة طالبانية، أو داعشية، أو على طريقة القاعدة، عندما يتم عزل الشعوب عن التواصل مع الحضارة واستيعابها، أو على الأقل محاولة فهمها بذريعة الدين، أو عندما تتحول المجتمعات إلى مجتمعات مفرطة في الزهد والتدّين على شاكلة الجماعات الصوفية، أو عندما نعتبر أن الوعي هو فقط عملية تحزيب لهذه المجتمعات على الطريقة الإخوانية أو بقية التيارات السلفية، فعند ذلك أنت أمام جيل جديد هو تحت مستوى الوعي، ولن ينجح بتاتاً في مواكبة المعرفة، لأن المعرفة ستأتيه من الأعلى، من تلك الطبقة التي جعلت نفسها وصية عليه، وهو جوهر الأزمة، لأنه تكرار لمشهد الحكام المستبدين، الذين هم يفكرون فقط، وما على الرعية سوى استيعاب عبقريتهم الفذة.

هنا أزمة العقل العربي، وهي أن الجميع يخدعك بفكرة الخصوصية الشرقية، أو بفكرة نظرية المؤامرة، لكي تعيش عمرك تحت مستوى الوعي، لكي تعيش حالة الوهم التي هي مجرد انتقال من الانتظار الى الانتظار، وبلا أي تغيير، وهو ما يبقي العقل العربي هائماً خارج سياق النص.

*راجع مروج الذهب للمسعودي أو تاريخ البلدان للسيوطي ص227 .

مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى