fbpx

مسؤوليات العرب بعد انهيار خلافة البغدادي

ظاهرة جمهورية البغدادي هي مسؤولية عربية بامتياز، بعيداً عن نظريات المؤامرة، وغيرها من مفسدات التفكير الحضاري، لأن الظاهرة الدينية الموجودة في بلادنا تكاد تكون واحدة من حيث الموروث الثقافي، بغض النظر عن طبيعة المدارس التي تنتمي إليها، بدءاً من التيارات الدينية الرسمية التي ترعاها الدولة، وصولاً إلى السلفية الجهادية المتشددة، أو الصوفية الزاهدة حسب المعلن، إضافة الى الإسلام السياسي على أنواعه، كلها مسببات للظاهرة الدينية التي في النهاية تملك تقاطعات مع التيارات المتطرفة، ما يعني أن الدائرة الدينية هي في عمق المشهد السياسي، وقادرة على التأثير فيه وقادرة على الانتقال من مكان إلى آخر، بسبب نسيج ثقافي مشترك موجود لدى مختلف التيارات والمدارس الدينية التابعة للسلطات الرسمية أو تلك الخارجة عنها. توظيف.. وتوظيف: فمسألة توظيف قطاع المؤسسة الدينية الرسمية والملحقة بها لكي تخدم مصالح السلطة السياسية، هي عملية صناعة وتكوين لــــــ (لعبة الدّين الخطرة) وجعلها في متناول الأيدي، لأن المؤسسة الدينية المنفصلة أصلاً عن الحياة السياسية، تتحول في لحظة معينة إلى فاعل أساسي فيها مع أن هذه المؤسسة جاهلة في تفاصيل المشهد السياسي. فالنظم المستبدة، تجد نفسها بحاجة إلى شرعية المؤسسة الدينية لكي تستر عيوبها من جانب، ولكي تستخدم هذه المؤسسات الدينية في برامجها السياسية أو الأمنية، وباستدلال بسيط، لنشاهد صناعة نظام الأسد للجهاديين إبان احتلال العراق وتسهيل مرورهم هناك، ثم إعادة اعتقالهم، ثم إطلاق سراحهم من جديد لكي يضربوا الثورة السلمية في سوريا، فكل ذلك لم يأت بعيداً عن دور المؤسسة الدينية الرسمية التي سهلت عبر منابرها هذه الخطوات، ثم هي ذاتها المؤسسة التي تتحول من خلال بوابة العمل الدعوي الظاهر، إلى صورة حزبية ضيقة الأفق، تعمل كرافد سياسي وحتى أمني في خدمة النظام الحاكم كما في سوريا وغيرها. بالضبط، هذا هو التوصيف في شمولية الحركة الدينية في التوظيف السياسي، فمن الصعب أن ننظر الى جمهورية البغدادي كفعل طارئ بلا مقدمات عديدة، مكنت أولاً الفكرة الدينية من النمو داخل مختلف التيارات الإسلامية، قبل أن تتحول إلى فعل دموي خارج عن السيطرة، حيث فتكت بعشرات الآلاف من السوريين والعرب، والقوميات والأعراق، وأعادت استحضار مشاهد دموية لم تشهدها حتى القرون الوسطى، فكل ذلك تم وفق صناعة محلية، كان عامل الدين بارزاً فيها بوضوح، لكنها من حيث الاطار العام بدت كبديل سياسي طرح نفسه باسم الدين، وارتكز على أسس دينية أسهمت في صعوده. مسألة الفعل في دائرة التدّين: بعيداً عن التوصيف، فاليوم تقع على العرب المسؤولية التاريخية في ضرورة إعادة صياغة المدرسة الدينية في جانبيها، الرسمي وغير الرسمي، وتقع على العرب قبل غيرهم مسؤولية منع ظاهرة داعش من العودة من جديد، والسبب أن تأثير العرب في الدين الإسلامي على عموم المسلمين هو أكثر من غيرهم. ناهيك عن كوننا كعرب نواجه مشكلة عميقة، تتمثل في الموروث الفكري الذي لا يزال مفتوحاً على مصراعيه، وتكمن خطورة هذا الموروث، أنه يعمل على تحميل عامة الناس فكرة المسؤولية عن إعادة بناء الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة، وهي الدولة الموجودة في عقول عموم الإسلاميين، وإن كانت بنسب متفاوتة. مسؤولية العرب اليوم تكمن في استحداث منطق لإعادة التفسير الديني بما يناسب الواقع الحالي، ونقصد هنا تعطيل فكرة الجهاد التي بسببها نشأت ظاهرة التطرف، وهذا التعطيل ليس بالضرورة فيه اعتداء على خصوصية الدين، فإذا كان المسلمون قد أجازوا تعطيل حد القطع في (عام الرمادة) لاعتبارات إنسانية بالرغم من كونه ثابت بنص الكتاب، فمن المنطقي أكثر تعطيل فكرة الجهاد بعمومها، لأن مفهوم الجهاد أصلاً غير متاح وفق شروطه الدينية وغير متوفر في هذا العصر ولا مقبول، وتأتي ضرورة ذلك أن فكرة الجهاد هي المادة الأساسية التي بنت عموم الفصائل المسلحة الموجودة في الوطن العربي نفسها عليها،  وبذلك أدخلت عوامل الفوضى والانقسام، وأسست لمفهوم التطرف الذي بات ظاهرة عالمية غير مسبوقة، ولكنه مع الأسف ينطلق في غالبيته من البيئة العربية. عملياً لا فرق بين المراكز الدينية التي تتبع الأنظمة والحكومات، من تلك التي تتبع للمؤسسة غير الرسمية، لأنها جميعاً تشترك في مسألة واحدة، وهي أنهم يضعون عامة الناس على حافة الجهل، لأن غالبية (رجال الدين) علاقتهم بالعلوم والحضارة علاقة صفرية، وارتباطهم الحقيقي هو في عالم النص الموروث، وعلاقتهم في فقه الواقع تكاد تكون معدومة، فكيف يمكن لهذه المؤسسة أن تخوض في غمار الواقع، وكيف لها إذا وقفت الى جانب الأنظمة أن تفهم أن وجوب طاعة الحاكم مرتبطة بوجود العدل، وأن المسألة ليست مطلقة. تماماً يكون دور المؤسسة أو المراكز غير الرسمية، والتي تنطلق من ذات النصوص، فهي تستبدل حاكماً بحاكم، وزعيماً بزعيم، ولا تراعي عموم المصلحة، وهكذا نشاهد كيف يتحول هؤلاء الذين تربوا في تلك المؤسسات الدينية إلى مجرد أدوات للموت فحسب، بدءاً من الإسلام السياسي وصولاً القوى المتطرفة أمثال القاعدة وداعش وملحقاتها. بالتالي، فالمدرسة الرسمية تمارس التطرف المشروع، والذي تباركه الأنظمة، وأما المؤسسة غير الرسمية، فهي التي ينتج عنها ذات التطرف، ولكن مع نسبية حجم الاستهانة بالدماء، فإذا كانت النظم الرسمية تخشى صورتها أمام العالم فهي تميل إلى الاعتقال للمخالفين، فإن نقيضها لدى المؤسسة غير الرسمية، والتي ليس لديها الوقت الكافي للمحاكم، فهي تلجأ إلى مفهوم القتل لمخالفيها، ولأنها بالطبع لا تشعر بقلق على أفعالها أمام العالم، باعتبارها إمارات متحركة، لا تكترث لأمرين، الناس والأرض. تأثير المدرسة: فكرة البطل هي واحدة من أسوأ الظواهر المدرسية التي يتم تدرسيها في مدارسنا العربية، وسوف نجد قصص البطولة في مسألتين، الأولى في صياغة التاريخ الإسلامي القديم، والذي يتم تقديمه بطريقة فوضوية، تخلق لدى الطفل العربي شعوراً بالكراهية، وتكتمل هذه الكراهية في المسألة الثانية التي تقدمها المدرسة، وهي تاريخ الاستعمار الحديث، وفكرة المقاومة، والأبطال الاسطوريين الذين تتمتع كل دولة عربية على حدا في اكتشافهم وإعادة إحيائهم في وجدان الطلبة، وما أقصده هنا، إننا كعرب عندما نقوم بتدريس مادة التاريخ القديم أو القريب للطلاب فإننا نعمل على إدخال الأسوار في داخل عقول الطلبة، وهو واحد من أبرز أزماتنا المعاصرة، وهي أننا نحاول ترميم الثقافة العربية وتقديمها للأجيال بشكل خاطئ، وبالتالي ان هذه الثقافة تتحول في لحظة معينة إلى كارثة اجتماعية، فماذا ينقص هذا الجيل المشحون أصلاً بالكراهية سوى وجود بيئة من الفوضى تتيح له ممارسة التطرف. تأثير القضية الفلسطينية: لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن التطرف دون استحضار القضية الفلسطينية، والتي هي بالطبع قضية عادلة، ولكن استخدام النظام الرسمي للقضية الفلسطينية أساء لهذه القضية، لأنه استخدم القمع والاضطهاد بقصد بقائه في السلطة، وكانت الذريعة فكرة المقاومة، والتي هي مجرد اختراع نظري بائس، امتد من عهد عبد الناصر في مصر، الى الأنظمة البعثية في العراق وسوريا، ثم لاحقاً بدت الصورة أكثر دموية مع دخول إيران إلى ملف القضية الفلسطينية، من خلال حزب الله في لبنان. ففي لبنان نحن أمام قوة متطرفة اعتقلت لبنان بأكمله، وهيمنت على القرار السياسي، وباتت تضع لبنان في دوامة من الصعب الخروج منها دون إنهاء الهيمنة العسكرية لحزب الله، ونحن في غزة التي دخلها القرار السياسي الإيراني أمام مشهد غاية في القسوة، فنحن أمام انهيار مجتمعي كامل، وظروف اقتصادية وإنسانية وصحية معقدة، ويمكننا أن نختصر حالة غزة بجملة واحدة، انه في كل بيت في غزة هناك مأساة لا توصف. إيران تتكلم باسم فلسطين، والحوثي يقتل اليمنيين ويتحدث عن فلسطين، وحزب الله ونظام الأسد انتهكوا محرمات لم ينتهكها بشر قبلهم، وخطابهم المعلن العداء لأمريكا وإسرائيل، ويشاركهم من بعيد تنظيم القاعدة ببعض الخطب الرنانة عن القدس، ولم تنس داعش زج فلسطين في برنامجها، فهل يمكن أن نعيد فهم القضية الفلسطينية بحسب الظروف الحالية، لكي نوقف استغلالها اللامتناهي. في النهاية، تبقى مسؤولية العرب حول مواجهة التطرف هي مسألة جوهرية لا لبس فيها، ويبقى إعادة قضية فلسطين الى الحضن العربي مسألة جوهرية، ففلسطين في دوامة هذا الموت بحاجة إلى حلول سياسية لا عسكرية، وعلى الأقل هذا هو موقف الفلسطينيين الذين لا يعيشون على نفقة إيران. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.''

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى