fbpx

المعارضة السورية خيبات بلا مراجعة

تتالت خسائر الثورة السورية وتعددت أسباب انتكاساتها الميدانية والمعنوية، ويمكن للمتابع أن يجد الكثير من الأسباب لذلك، وقد يتفق الكثيرون على معظم الأسباب التي أدت لإطالة عمر مأساة السوريين والحال التي آلت إليه أوضاعهم ووطنهم، إن كانت خارجية أم داخلية، مادية أم بنيوية فكرية، عسكرية أم سياسية إلى آخر ما يمكن إدراجه من عناوين أو تصنيفات. بعد دخول الثورة عامها الثامن وتغول النظام السوري بكل هذا الدم، كان لا بد من طرح السؤال الأهم، هل تقدمت قيادات المعارضة بتقييم جاد لمسيرتها إن كان على المستوى المؤسساتي أو الحزبي أو العسكري أو حتى الشخصي، ووضعت ذلك بشفافية ومسؤولية أمام شعبها المنكوب عله يجد في مراجعة ذلك أفكاراً تعينه على النهوض من جديد بتجنيبه تكرار منزلقات خطيرة مرت بها؟. لا شك كثرت في مسيرة الثورة عمليات التخوين وتبادل التهم بين شخصيات معارضة، وازدادت أيضاً بشكل واضح نسبة التهكم التي تتعرض لها مؤسسات المعارضة السورية من قبل الجمهور السوري على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، ولكن أبداً لم تتجرأ مؤسسة واحدة على التعامل الإيجابي مع النقد أو التصدي لتلك الاتهامات وتفنيدها، بل بعض الشخصيات المعارضة سخر من الجمهور ونظر إليه بشكل فوقي كما نظام الأسد، واعتبر النقد جهلاً أو ردحاً مأجوراً. في العودة للبدايات، منذ التداعي للقاء المعارضة في فندق سمير أميس وسط العاصمة دمشق في 27 حزيران/ يونيو 2011، حيث حضر نحو 200 شخص بعضهم حجز كرسيه من باب الفضول ليس أكثر، كان واضحاً لمن يعرف شيئاً عن الشأن السوري، أن المؤتمر أو اللقاء شكّل صورة مهمة عن افتقار المعارضة التقليدية لرؤية واضحة تواكب الحراك الشعبي الذي انطلق بالشارع في آذار/ مارس 2011، فقد أُفرغ المؤتمر من مضمونه بلحظة انعقاده وتحويله إلى مهاترات وهرج ومرج، وكأن الحضور لم يدرك طيلة عقود ماهية نظام الأسد ودهاءه، فبدت المعارضة أقرب إلى البراءة، والبعض قد يسميها سذاجة عندما يتعلق الأمر بمصير شعب. تتالت المؤتمرات واللقاءات ثم ظهرت تكتلات ومنصات مختلفة قدمت كل واحدة منها رؤية للوضع السوري تناسب وجودها الجغرافي ما بين الداخل والخارج أو في بعض الدول، إلا أن أهم ما تبلور من كيانات تمثيلية يمكن إيجازها بمن اعتمد ولو نسبياً كممثل للسوريين. في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، تم تشكيل أول جسم سياسي في مدينة إسطنبول التركية، لتمثيل الحراك الثوري تحت مسمى “المجلس الوطني السوري”، وبحسب ما عرّف نفسه بوثائقه ضمّ مختلف أطياف المعارضة السورية، فقد ساهم في بنائه الأمانة العامة لإعلان دمشق والأخوان المسلمين وممثلون عن الأكراد، وقدم نفسه للعالم بأنه ممثل للشعب السوري، ويعمل على إسقاط نظام الأسد بكل رموزه وأركانه. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، تشكل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في الدوحة بقطر، وتمثل المجلس الوطني فيه بنسبة 22 مقعداً من أصل حوالي 60، حيث تم إضافة مكونات جديدة، وهكذا تراجع دور المجلس الوطني ليصبح مجرد مكون سياسي يضاف إلى تشكيلات السوريين. قدم الائتلاف نفسه بأنه ممثل للحراك الثوري السوري، ويعمل على إسقاط نظام بشار الأسد ورموزه ودعاماته، وتفكيك الأجهزة الأمنية السورية، وتوحيد فصائل الجيش السوري الحر تحت قيادة موحدة، ورفض الحوار والتفاوض مع نظام الأسد والعمل على محاسبة المسؤولين عن الجرائم بحق الشعب السوري. اعترفت بالائتلاف جامعة الدول العربية كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري ما عدا لبنان والعراق والجزائر، ثم اعترفت به تركيا وعدة دول أوربية على رأسها فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، وبعد اعتراف الولايات المتحدة فيه في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر، بحسب مركز كارنغي، اعترفت مباشرة في اليوم الثاني  أكثر من مئة دولة كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري، ووصفته فرنسا بأنه حكومة سوريا المستقبلية. قرر الائتلاف تشكيل حكومته المؤقتة في 19 آذار/ مارس 2013، وذلك في مؤتمر موسع عقده في مدينة إسطنبول التركية، وبعد اعتماد تشكيلها أخذت مقراً لها في مدينة غازي عنتاب الحدودية مع سوريا، وعملت على تشكيل مكاتبها الفرعية وتنظيم علاقاتها مع الدول ومع الداخل السوري، وقدمت نفسها على أنها ترعى مصالح السوريين بعيداً عن تحكم حكومة الأسد بهم. تشكلت فيما بعد هيئات التفاوض في الرياض، وأصبح الائتلاف بدوره مكوناً من ضمن عدة مكونات سورية، وتحول من ممثل شرعي إلى تنظيم سياسي معارض يجمع بعض السوريين المتناقضين بالمصالح حوله، وتحولت الحكومة المؤقتة من مؤسسة ترعى أمور السوريين إلى بضعة مكاتب ترعى موظفيها بشكل رئيس وتحاول تأمين مساعدات دولية لتغطية رواتبهم ونفقاتهم اليومية. أما الجيش الحر فله حكايات طويلة ومتعددة وتحتاج للكثير من الملفات لسردها، إضافة إلى منظمات الإغاثة والتعليم والإعلام والمرأة والطفولة والرعاية النفسية وإدارة السلم الأهلي والمكاتب المعنية بالحقوق والعدالة، وعشرات المسميات التي ظهرت كالفطور بلا أساس أو جذور، وكل من هؤلاء قدم نفسه على أنه ولي أمر السوريين، يضاف إليها بعض التكتلات السياسية التي لم يتعدَ عملها بضع ندوات ثقافية يحضرها عدد أصابع اليد من جمهور مكرر. كل ما سبق ذكره بالإضافة إلى بعض الشخصيات الهامة التي سيطرت على واجهة الحراك السياسي السوري بطريقة الوعاظ من مثقفين مخضرمين، ومثلهم عدة مشايخ ورجال إفتاء أو علماء دين كما يرغبون أن يطلق عليهم، يمكن التوجه إليهم جميعاً بالسؤال نفسه، هل قمتم بمراجعة شاملة وهادئة وشفافة لعملكم، من باب تصويب الحالة أمام هول المصاب الذي ألمّ بالسوريين، أم لا؟، وإن كان للبعض من مرجعات هل كانت للبحث عن طرق إعادة تصنيع الذات وإنتاجها لتناسب مغانم مرحلة مستجدة باللعب السياسي وغيره. تدهورت كافة مؤسسات المعارضة وغاصت في شخصنة القضايا الوطنية، ودخلت متاهة تحالفات متناقضة فيما بينها، ولم يكن هدفها الخروج بالسوريين من كارثتهم، بقدر ما هي تحالفات مرحلية لتوطيد المناورة للوصول إلى مغانم ذاتية بحتة، واستطاعت على سبيل المثال العديد من الشخصيات المعروفة والتي يفترض أن لها تاريخها السياسي والفكري، التنقل المرن والسلس من اليمين إلى اليسار إلى الوسط، ومن العلمانية إلى الضبابية إلى التكامل مع المرجعيات الدينية بما فيها مرجعيات الطوائف المختلفة لتغنم التمثيل السياسي من أكثر من جانب. أيضاً لعب الدعم الخارجي على ما يبدو دوره في توجيه البوصلة الذاتية لعدد من هؤلاء كونهم أصبحوا في دائرة الضوء فدخلوا في لعبة التجاذبات الإقليمية، وانسحب ذلك على التجاذبات العربية التركية، والتركية الأوربية وهكذا، فأدخلوا معهم الهياكل التي أسسوها في هيجان الأمواج المتلاطمة لدول لها مصالحها، وتناسوا مصالح شعبهم، وحتى عند الانسحاب الشخصي أو الاستقالة من أي كيان كان يرافقه من قبلهم مجموعة من التهكمات والتصغير للكيان نفسه ولمن بقي فيه، وكأنها وصفة سحرية للخلاص جلباب كانوا بالأمس مدافعين عنه فيظنون أن بعض التهكم قد يلاقي تهكمات الناس للالتفاف على قضاياها. في أواسط 2016 دعا الائتلاف عدة شخصيات إلى ندوة فكرية استمرت ليومين في إسطنبول، لبحث مسارات الثورة وخلاصها، وطالب المدعويين بإحضار أوراق عمل حول رؤيتهم للأخطاء التي وقعت فيها المعارضة، وسبل التخلص من ذلك للنهوض من جديد بدورها في قيادة الحراك الثوري السوري، كانت النتيجة أن كافة المداخلات والأوراق والاقتراحات تم جمعها بعد الندوة وطبعها في كتاب مركون على الرف ولم يؤخذ بشيء منها حتى صاحب الدعوة أي الائتلاف نفسه، وكانت الأوراق قد تطرقت لكافة المواضيع بشكل واضح وبدون مجاملات من المشاركين ضمن ورشة عمل انتهت إلى توصيات استلمها الائتلاف بشكل مباشر. على ذلك يمكن قياس كافة المؤسسات المعارضة، لم يقدم أحد مراجعة أو اعتذار، سوى ما كان يرافق الاستقالات من أعضاء هنا أو هناك، كما حصل في استقالة معاذ الخطيب من قيادة الائتلاف، أو استقالة عدد من الشخصيات من المجلس أو الائتلاف نفسه أو مكونات أخرى، رامين التهم على الآخرين ومقدمين أنفسهم على أنهم حاولوا الإصلاح لكنهم فشلوا، لتأتي تهم مغايرة من آخرين ترد عليهم، وهكذا تحول العمل المعارض السوري إلى مزايدات شخصية حتى بين الأصدقاء. من يتأمل المشهد المعارض السوري، سيخرج بنتيجة مؤلمة لحجم التباينات والانشقاقات والذاتية التي شرذمت المشرذم أصلاً، فمنذ تأسيس التنسيقيات ومن ثم المجالس المحلية إلى تشكيل الفصائل والمكاتب التابعة لها حتى المحاكم الشرعية، واضح بأن الفكرة أصبحت ملهمة للبحث عن تمويل، فكل خمسة أشخاص يستطيعون إصدار بيان وتشكيل فصيل أو مكتب أو تنظيم، يشتم الآخرين ويعطي الأمثال والحكم للسوريين ويقدم نفسه البلسم الشافي. لم تتعرض دولة في التاريخ إلى حجم المصاب الذي مر على السوريين في نظامهم وفي معارضتهم، ووصلت الأمور إلى أنه إن سألت أي سوري الآن، من يمثل المعارضة بوجه النظام، لن يستطيع الإجابة، أو سيقول لا أحد، وإن قلت له أية مؤسسة مرجعيتك إن احتجت لشيء أو تعرضت لموقف؟ أيضاً سيقف محتاراً بالإجابة. انعكس كل ذلك الصراع البيني على تشكيل وفود التفاوض منذ أول وفد للذهاب إلى جنيف2 في في شباط/ فبراير 2014، حيث وافق الائتلاف على المشاركة فيه، فيما سبق ورفض المجلس الوطني والفصائل العسكرية بيان جنيف1 ورفضوا التفاوض مع نظام الأسد في حزيران/ يونيو 2012، ولم يبرر أحد هذا التناقض بالرؤية. في سلسلة التفاوض في جنيف، ثم دخول خط أستانة على الخط لاحقاً، وتشكيل وفود بصبغات وتعاريف مختلفة، وارتباط تشكيل وفود التفاوض بمؤتمرات عقدت بالرياض وتجاوزت هيكلية المعارضة السابقة بحجة توسيع الطيف المفاوض، ودخول لعبة المكونات الطائفية والعشائرية والقومية إلى دائرة الضوء بشكل أكثر وضوحاً لتقاسم غنيمة أصلاً غير موجودة، مضافاً إليها المنصات التي ولدت كالطفرات وأخذت تقلد بعضها بشد الحبال، جعل السوريين يدخلون في متاهات جديدة وتوصيفات لم تخطر على بال الشياطين، دون الحصاد في أي جولة تفاوضية لأي نتيجة تخص السوريين لا في جنيف ولا أستانة سوى استعراضات الصور. بعد كل ذلك بقي عدد مهم من الشخصيات المعارضة تتنافس على منابر وهمية وربما أصبحت عبئاً على السوريين وتزيد من معاناتهم معاناة، ولم تتقدم خلال سبعة أعوام مريرة من النكسات، أي جهة معارضة بكشف حساب واقعي لأخطائها لتترك المجال لغيرها علّه يرمم ما انكسر، ويعيد الثقة للمكلومين، بوطنهم ونُخبهم وعدالة مطالبهم، دون إلقاء التهم جزافاً أو التملص من المسؤولية برميها على الخارج. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى