fbpx

دور النخب المثقفة في مواجهة الإرهاب والتطرف

إن تحديد مفهوم الإرهاب المتشح برداء ديني إسلامي، وانعكاساته الاجتماعية والثقافية والفكرية ضروري لوضع استراتيجية عمل علمية لمواجهته وتجفيف منابعه في الواقع. ونحتاج إلى كشف العلاقة الملموسة بين نمط التربية السائدة في المجتمع والإرهاب أو التطرف بأشكاله كلها. وهذا يتطلب جهداً نخبوياً مؤسساتياً يعمل على تقصي المنابت المولدة لهذا الإرهاب عبر المنبت الاجتماعي والديني وكذلك الفهم الثقافي والشكل التربوي والتعليمي الموجود في المجتمع المعني. ونحتاج إلى مواجهة الإرهاب إلى تشخيص علمي واقعي للبيئة الحاضنة والمولدة له، وتتسم هذه البيئة بتخلفها العام وبارتفاع نسبة الفقر فيها وكذلك خضوعها لاستبداد سياسي واجتماعي وفكري. هذا التشخيص ليس جهداً فردياً نخبوياً، بل يجب أن يكون مؤطراً بمؤسسات مختلفة المهمات. تضع خططاً ملموسة لمعرفة أسباب الإرهاب في المجتمع المعني وكذلك تضع خطة عمل بالتعاون مع جهات أخرى لمواجهة عوامل هذه البيئة المولدة للإرهاب. تحتاج النخب المثقفة إلى وضع رؤية ملموسة للنموذج التربوي والاجتماعي الملائم لبناء الفرد عبر مؤسسات التربية والتعليم. هذه الرؤية الملموسة يجب أن تعيد النظر في المفهومات التربوية السائدة وفي الأفكار الدينية المتداولة بين الناس بوصفها مفهومات مطلقة. وهذا يتطلب وضع برنامج عمل لضخ فكري وثقافي ومعرفي كبير لبيان أهمية العلم وتطور شخصية الفرد. وإعادة إنتاج علاقة الفرد بالدين من خلال مفهومات إنسانية وحضارية. وبيان أن الأفكار التي راجت في مراحل سابقة بوساطة شيوخ فكر ديني إنما هي أفكار رافقت واقعاً محدداً في ذلك الزمن. ولا تصلح لغير زمانها. النموذج التربوي الذي يجب أن تقترحه النخب المثقفة هو نموذج يلحظ التداخل بين الدين والتربية الاجتماعية في الأسرة الإسلامية وكذلك يلحظ الدور الذي تؤديه المدرسة في تنشئة الجيل، والدور السياسي والمنظمات الاجتماعية الموجودة أو التي ينبغي إحداثها لهذه الوظيفة. وهذا يتطلب طرح ثقافة تربوية جديدة لا تقوم على التلقين بل على الاستقراء والنقد الفكري، ثقافة تربوية ترفض النموذج التربوي القائم على مبدأ الطاعة والقبول والامتثال. فهذا المبدأ يمنع عن الفرد تشكيل ثقافته التي يكتشف أهميتها تدريجياً بنفسه، وهي ثقافة الاعتماد على الذات التي تنمي الإحساس بالمسؤولية وتحمل العبء. إن النخب المثقفة معنية بشن حملة مدروسة ترفض التلقين ومبدأ الامتثال والطاعة. النخب المثقفة معنية أن تخرج من بوتقة عزلتها التي وضعت نفسها فيها نتيجة خوفها من القمع السلطوي الذي يعني درجة تناقض بنيوية واضحة بين ما تريده سلطة القمع من منع للتفكير والمبادرة الاجتماعية والثقافية ومن دور طبيعي تؤديه النخب في سياق التطور الاجتماعي العام. هذا الأمر يحتاج إلى إنشاء منظمات وأطر عمل ثقافية وإبداعية واجتماعية وغيرها من منظمات المجتمع المدني تكون مستقلة عن السلطة وعن الحيّز الأيديولوجي أي منظمات اجتماعية للجميع. خروج النخب المثقفة من عزلتها يعني العمل على إرساء فضاء للرؤية والممارسة الإنسانية المنفتحة على الآخر وعلى بناء الإنسان. وهذا يتطلب إحداث منابر وأندية ثقافية وإبداعية وغيرها إضافة إلى الضغط من أجل إنتاج منهاج مدرسي علمي لا تتدخل فيه مفهومات حزبوية أو دينية أو طائفوية أو أيديولوجية. النخب معنية أن تتحول المنابر إلى وسائل لإعادة إنتاج وعي الناس بصورة مناقشة وحوارٍ حرٍ ومفتوح. إن عماد الوعي والثقافة هو تداول الكتاب ونشره وهذا ينبغي أن يخضع لمراقبة النخب المثقفة التي تمنع تحت شعار حرية التعبير تمرير كتب تدعو إلى العزلة السياسية أو لتكفير الآخر وكذلك فضح كل ما يطرح عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ووسائل الفضاء الإلكتروني من طروحات فكرية أو سياسية تدعو إلى حالة الإرهاب والتطرف والكراهية. والمطالبة بإغلاق كل وسائل الإعلام التي تساعد على ولادة فكرٍ إرهابي ومتطرف. النخب المثقفة معنية بالابتعاد عن لهوها الأيديولوجي والاهتمام بكيفية الاندماج الاجتماعي بين الفئات والمكونات الاجتماعية المختلفة. وهذا يتطلب صوغ خطاب فكري ثقافي يعتمد على دمج الناس في المجتمع عبر مفهوم المواطنة، فالكل متساوون بوصفهم مواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين والطائفة والإثنية في المجتمع الواحد، الدمج هنا يعني حقوقاً ثقافية واجتماعية ودينية في ظل دستور وطني ينظّم ذلك. إن الابتعاد عن الوطنية الواحدة يعني تكريس ثقافة العزلة المولدة للإحساس بالغبن والخوف ومن ثم المولدة للقهر والإحباط التي تقود إلى التطرف وربما إلى الإرهاب. النخب المثقفة يجب أن يكون اهتمامها للواقع ملموساً وليس معرفياً فحسب، وهذا يجعلها تضع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية هدفاً لها تدعو إليه وتضغط من أجل الاسراع في تنفيذ خطط التنمية المتكاملة. فالتنمية ضرورة واقعية لمنع الفقر والقهر الاقتصادي، وهذا يتطلب مساهمة فاعلة لوضع تصورات ملموسة وعاجلة لمسألة التنمية. النخب المثقفة والسياسية التي تنتج الفكر والمعرفة معنية بوضع خريطة واقعية لحاجات الناس في المجتمع بحسب درجة أولويتها شرط تلازمها مع الحرية وحق النقد والتعبير. هذه الخريطة تساعد في الاستقرار الاجتماعي وتمنع الجنوح إلى الإرهاب. وكذلك حتى يكتمل دور النخب المثقفة والسياسية يحتاج هذا الدور إلى وضع استراتيجية ملموسة لمواجهة الإرهاب في البيئة المولدة له؛ أي استراتيجية تجفف أسباب هذا الإرهاب ودوافعه من فقر وجهل واحساس بالتهميش. إن وضع هذه الاستراتيجية يحتاج إلى معرفة النخب بالمقدرات المادية المتاحة لهم في الاستخدام لإنجاز دورهم. وهذا أمر يتيحه وضع البلد المعني بمواجهة الإرهاب واحتمال نشوئه في البيئة الاجتماعية. النخب الثقافية والسياسية معنية بالانتقال من دورها السابق إلى دور اجتماعي وطني إنساني جديد يعتمد قاعدة المواطنة وحقوقها وواجباتها في الفعل الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وغير ذلك من أفعال. وهذا يتطلب اندماجاً بين النخب والشعب بفئاته المختلفة. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى