fbpx

رواية ملكة الفوعة.. الحب الذي غلب الحرب والطائفية معاً

“كنت أبحث عن صديقتي، عن حبي القديم ذاك في زحمة القذائف، والموت اليومي على كلا الجانبين، بعد أن دخل مسلحو البلدتين في مواجهات مباشرة. أين تقف هي اليوم، هل مازالت تحيا، هل تزوجت، ومن تزوجت يا ترى، هل أنجبت أولاداً، ما عمر أولادها، هل هم في عمر أولادي؟ إذا كانوا كذلك فهل يحملون السلاح كأبناء جيلهم في “بنّش” من الشبان الذين تركتهم صغاراً… ماذا لو لم تكن تعيش في الفوعة كلها؟”

يستطيع هذا المقتطف من رواية ” ملكة الفوعة” أن يلخص الجو العام للرواية التي صدرت مؤخراً عن دار نون للطباعة والنشر للصحفي والكاتب السوري شعبان عبود.

فالحب هو أكثر الأشياء التي تشتعل في الحروب، والفرق بين الحب والحرب حرف واحد فقط، فكيف إذا كان هذا الحب من مرحلة ما قبل الحرب؟ّ!

سيرة ذاتية

يروي شعبان عبود في هذا السرد سيرته الذاتية، من حبه العابر للطوائف فهو من بلدة بنش في ريف إدلب، وتجاورهم قريتان صغيرتان كأقلية شيعية في ريف إدلب هما الفوعة وكفريا، والمدرسة الثانوية كانت على الطريق بين بنش والفوعة. شعبان وقع في حب صديقته سلمى، ولكنه جَبُنَ عن أن يبوحَ لها بحبه، نتيجة عقاب عاقبه عليه ابوه عندما كان طفلاً، حيث وجده يكتب رسالة لإحدى البنات، فمجتمعنا يكره الحب ويعتبره من المحرمات! سلمى رغم أنها كانت محط أنظار جميع الطلاب إلا أنها كذلك أحبت شعبان، ولم تبُح له بذلك إلا بعد مرور ثلاثين سنة.

بين الظلم والمظلومية

عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011 كانت مدينة بنش من أوائل المدن الثائرة ضد نظام الأسد، إلا أن البلدات الشيعية كانت مؤيدة لنظام الأسد لما له من ارتباط بحزب الله وإيران، الذين فرضوا أنفسهم كرعاة للشيعة العرب، ومعها فرضوا رؤيتهم السياسية، بما فيها تأييد النظام الظالم، رغم ما تدعيه أدبياتهم من كره للظلم ومحاربته.

شعبان الصحفي الذي سُجن وتعرض للمضايقات الكثيرة في سوريا الأسد اضطر إلى مغادرة سوريا مهاجراً إلى الولايات الأمريكية المتحدة عام 2006، حيث عمل كصحفي في قناة الحرة الأمريكية من الطبيعي والحال هذه أن يكون من أوائل من يعلنون وقوفهم مع الثورة السورية المنادية بالحرية والعدالة والمساواة للجميع.

حيادٌ مع مقتل الأهل!

يشير الكاتب إلى نقطة تعرض لها كل الصحفيين السوريين الذين يعملون في وسائل الإعلام العربية أو الأجنبية، حيث يتطلب من الصحفي أن يكون محايداً في نقل الخبر، بينما من يموتون ويسجنون ويُشردون هم أهله وأصحابه!

الثورة السورية انطلقت شرارتها الأولى عبر الفيسبوك، بالدرجة الأولى، ومن خلال هذه الوسيلة كان شعبان يتابع أخبار الحرب التي اندلعت بين الجارتين الودودتين، واللتان أصحبتا لدودتين، بعد انطلاق الثورة، فأبناء الفوعة ولأسباب طائفية كان النظام يسهل دخولهم إلى أجهزة الأمن والجيش، بينما على أهل بنش أن يغربوا ويشرقوا سعياً وراء لقمة العيش، ” بعد سن الثامنة عشر كان النظام يذكرنا أننا مختلفون، وأننا أبناء طائفتين مختلفتين، كان يسد الأبواب أمام أبناء بنش، وبفتحها أمام أصدقائهم من الفوعة”.

البحث عن الحب القديم في الفيسبوك

هكذا إذاً.. كان شعبان يتابع أخبار الحرب بين بنش والفوعة، وفي باله دائماً حبه القديم المكبوت، ولطالما بحث عن حبه بين صفحات العالم الأزرق، إلى أن وجد اسماً تدل كنيته على قربه من سلمى الحب الأول، وكانت حقاً ابنة عمها، بالفعل طمأنته الأخيرة عن سلمى، ولكنها اخبرته أنها في حالة حزن وانهيار، نتيجة موت ابنها بعد اشتباكات مع أهل بنش، بعد فترة من الزمن تستطيع سلمى أن تصل لشعبان، بعد ان أخذت رقمه من أخيه، وهنا تبدأ فصول الحكاية بالوصول إلى الذروة، حيث استطاع شعبان أن يقول لها ” أحبك” في خضم كل هذه الحرب والدمار، ليلتقي بها بعد ذلك في بيروت، إذ كان يحضر لإعداد فيلم وثائقي عن تأثير الحرب بين بلدتي بنش وكفريا، ” ولأن سلمى كانت تثق بي ثقة عمياء، وتثق بدوافعي ومهاراتي الصحفية وافقت على الفكرة، وأعجبتها، كنت أتوقع أن أجد صعوبة في ذلك”، ولكن يبدو أن ذلك المشروع لم يُكتب له النجاح فاستعاض عنه بهذه الرواية، ونصبها ملكة على الفوعة.

التطهر من الطائفية وحروبها

استطاع الكاتب أن يقفز فوق نيران الحروب الطائفية المستعرة، دون يحرقه شررها، وأن يحافظ على حبه الأول بنقائه الأول، بل لقد استطاع أن يخرج حبيبته المختلفة المذهب من حزنها المقيم، وأن يعبر عن رفضه لحصار أهل الفوعة من قبل بنش والمدن الثائرة الأخرى، ” ذاكرتي تأبى تصديق ما يجري، لم أصدق، بل لم أتخيل أن تتحول الكروم التي كنا نلتقي فيها إلى نقاط حراسة ودشم للقتال”.

لقد امتلك الكاتب اليوم ما فقده قبل ثلاثين عاماً، فكانت لديه الجرأة ليعبر عن حبه وكثير من يومياته بين بنش والفوعة، وكأنه يعري ذاته أمام القارئ، في سيرة غلبت عليها اللغة الوجدانية للمغترب المهَجَّر الذي فقد وطنه، سيرةٍ مطعمة بيوميات الحرب ومرارتها وفقدها.

معاناة الشيعة المعارضين

يسرد فيما يسرد عبود معاناة الضابط الشيعي “نضال” المؤيد للثورة، والذي قاتل في صفوفها، ولكن عانى ماعاناه من جبهة النصرة، وغيرها من الفصائل المتطرفة، حتى عندما قُتل ابن أخيه الرائد في صفوف الجيش الحر، لم يعتبروه شهيداً، كونه شيعياً!. شعبان التقى الضابط المنشق في مهجره بهولندا، والذي قال له: ” لست نادماً على خياري في مساندة الثورة، إنها ثورة الجميع وهي ثورتي شخصياً، لكن ما أخشاه سيئان اثنان، أن نتخلص من النظام ثم يحكمنا أصحاب اللحى الطويلة، وأن أموت غريبا هنا، بعيداً عن منزلي”.

هل سيعود الموتى؟!

في نهاية الرواية يعود الكاتب لضبط إيقاع العلاقة بينه وبين سلمى بما يتناسب مع العمر والظروف، ” لن نذهب بعيداً، سنتعلم أن نقف عند الحد الفاصل بين الصداقة وما بعد الصداقة، عند تلك الشعرة، والخيط الرفيع، أكثر من صداقة وأقل من حب”.

وسأختتم هذه المراجعة بمقتطف من ورد في فصول الرواية الأولى ” حتى لو توقفت الحرب غداً، حتى لو ترك المقاتلون سلاحهم، حتى لو توقف قصف الطائرات الهمجية، حتى لو رحل الطائفيون، حتى لو رحل الغرباء وراياتهم الصفراء والسوداء والخضراء والحمراء، هل يمكنني أن اعود إلى بنش وأن أبني بيتاً صغيراً فيه شجر وورود وكلب وخروف ودجاجات؟! هل أعود لكن إلى أين، هل سيرجع جيراني وأهلي وأصدقائي من دول اللجوء، هل سيعود الموتى ؟!

هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى