fbpx

جريمة الشرف الكاذب

أعاد الفيديو الذي انتشر خلال اليومين الماضيين الجدل حول ما يسميه العرف وحتى القانون في بلادنا “جريمة الشرف”، تضمن الفيديو تسجيلاً لمسلح اسمه بشار بسيس يقتل أخته رشا في مدينة جرابلس، بعد الادعاء أنها مارست الجنس مع ضابط تركي في جرابلس، كان المصوّر يحمس بشار قائلا: “غسِّل عارك يا بشار”، فأفرغ “المقاتل الصنديد قاهر الأعداء” رصاص 3 مخازن من بندقيته في جسد أخته[1]. هذه الجريمة جريمة مضاعفة لأن مرتكبها وأصحابه يجاهرون بإثمهم وجريمتهم، وفي بلد عانى ويعاني أشد أنواع الآلام والظلم والقهر، وفي زمن بات فيه الإعلام البديل يشكل خطراً داهماً على المجتمعات الإنسانية، بما يبثه أمثال هؤلاء المجرمين الذين لا يمكن تمييز إجرامهم عن إجرام الحكام الطغاة، ومليشيات القتل الإرهابي الطائفية، ولا جيوش التدمير في سوريا. الفرق الوحيد أن هذا القاتل قادته أوضاعه إلى أن يكون ضمن كتائب مقاتلة ضد الطاغية السوري، وذاك موال له، وذلك تابع لأمير جهاد سني أو شيعي. هذه الجريمة استدعت ذكرى جريمة “فحل” آخر اسمه أبو مروان، وهو لاجئ سوري ذبح زوجته السابقة، أمام أطفالهما الأربعة في بداية هذا العام في ألمانيا، ثم بث تقريراً مصوراً مباشراً على الفيسبوك، يصف بها جريمته وابنه ذو الاثني عشر ربيعاً يقف إلى جانبه[2]. إن مفهوم جريمة الشرف وفكرتها من أكبر الكذبات التي توافق عليها رجال المجتمع منذ قرون طويلة. كذبة تضرب جذورها عشرات القرون في تاريخ البشرية، فقانون جوليان الذي أصدره الإمبراطور الروماني أوغسطوس قبل 2000 سنة اعتبر أن من حق الأب والزوج قتل ابنته أو زوجته في حال ممارسة الجنس خارج الزواج، حتى أنه طبق القانون على ابنته جوليا[3]. هذا التسلط الذكوري استمر قروناً طويلة في أوروبا، فقد أباح التشريع النابليوني -الصادر عام 1804 في عهد نابليون الأول- للرجل قتل زوجته وعشيقها، إن خانته مع رجل آخر، لكنه منع الزوجة من قتل زوجها إن خانها[4]، ولم يجرِ إلغاؤه حتى عام 1975، في إيطاليا أيضا بقي القانون 587 الذي يعطي أسباباً تخفيفية لجريمة “الشرف” حتى عام 1981. لكن أغلب الدول والشعوب في القرن العشرين بدأت تعي أن المرأة إنسان لها حقوقها الكاملة، وأن ما تسمى جريمة “شرف” هي جريمة بشعة لا ترد شرفاً ولا تصون كرامة، بل هي جريمة قتل بكل معنى الكلمة، بل أسوأ من غيرها لأنها تنال أفراداً في العائلة؛ فألغيت هذه القوانين التي تسوّغ الجريمة في أغلب دول العالم. إلا في بلاد العرب والمسلمين والهند ودول جنوب شرق آسيا، فما زالت الأعراف والقوانين والمفهومات المشوهة عن الإنسان والمجتمع والدين والرجل والمرأة هي المسيطرة[5]. فعدد ما يسمى “جرائم الشرف” في هذه البلاد أعلى بكثير من غيرها من البلاد والمجتمعات، إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى وقوع 5000 جريمة “شرف” في كل سنة في العالم، والضحايا في أغلبيتهم العظمى نساء. ما يلفت النظر أن هذه الجرائم تقع في البلاد الأكثر فقراً وأمية وتخلفاً علمياً، المحكومة كلها بنظم سياسية دكتاتورية فاسدة متسلطة، وغالباً عسكرية أمنية، والمجتمعات التي يسيطر عليها التمييز الطبقي والعرقي والديني والطائفي، والتمييز ضد المرأة باعتبارها أقل مرتبة من الرجل، وغالباً ما يسيطر على صناع الرأي العام طبقة من رجال الدين محدودي الفكر والمعرفة؛ بينما يقف مثقفوها ونخبها على الهامش، إما خوفاً من سجون الحاكم المستبد، أو خوفاً من مواجهة المجتمع بعيوبه، فيلجؤون إلى نفاق المشاعر الجمعية الضالة في أغلب الأحوال؛ لذلك نادراً ما يجرؤ بعضهم على الصراخ أمام المجتمع “إن شرفك وكرامتك أيها الرجل مسلوبون من قبل دكتاتور يجلد ظهرك، وجهاز أمن يراقب أحلامك، ورب عمل يسرق عرقك، وشيخ ظلاميات يسرق دينك، وليس في جسد امرأة ضعيفة مسحوقة أكثر منك، أيها الرجل كفاك كذباً على نفسك ومحيطك وإلهك، أنقذ شرفك وكرامتك بالعمل الواعي لبناء مجتمع عادل حر يحفظ كرامة الإنسان بوصفه إنساناً، لا فرق فيه بين رجل وامرأة، كي لا يكون فيه فرق بين صاحب سلطة أو مال وبينك”. المشكلة الكبرى في هذه الجرائم ليس فقط الجريمة في حد ذاتها ومرتكبيها، بل جمهور المهللين والمكبرين لهذه الجرائم، والأعراف والتقاليد وحتى القوانين التي تسوغ أمثال هذه الجرائم. عندما يراقب الإنسان ردات الفعل على جريمة بشار بسيس أو أبي مروان أو أي مما يشبه هذه الجرائم، يرى أن أغلب المهللين هم رجال وبعض النساء ممن يسيطر الجهل على فكرهن، وينقصهم كثير من المعارف الأساسية للإنسان في العصر الحديث، وأنهم من نوع جمهور ما سمّاه السوريون “شبيحة” وسمّاه المصريون “البلطجية” نفسه، وهؤلاء بفضل الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بدؤوا يجمعون أنفسهم، ويشكلون كتائب تمارس الإرهاب المعنوي واللفظي وأحياناً المادي ضد تيارات التوعية والعصرنة كلها، سواء كانوا مع الدكتاتور أم ضده. الصعوبة الكبرى في مواجهة هذه الأفكار العفنة، تكمن في قوة الأعراف والتقاليد التي تبيح أخطاء وخطايا الرجل أو تتغاضى عنها؛ فلا ترى مثلا في التحرش الجنسي الذي يمارسه رجال المجتمعات الشرقية والعربية الإسلامية بكثافة في شوارع مدنهم وضد نساء مجتمعهم جريمة يستحقون عليها العقاب؛ فغالباً تكتفي الأعراف باستهجان هذا التصرف على استحياء، بينما تتناوله الأحاديث الشعبية بوصفه مفخرة ودلالة فحولة ونكتة مضحكة. هذا الموقف من التحرش الجنسي يشرح التناقض العميق في هذه الأعراف والتقاليد، فكل رجل متحرش لا يجد غضاضة بالتفاخر أمام أصدقائه ومحيطه بما قاله أو فعله، لكنه يفترض أن النساء من عائلته هنّ خارج إطار المتحرَّش بهنّ، في كذبة كبرى يعلمها في عمق ذاته، ويعلمها قرينه الذي يضحك ويروي أيضاً قصص تحرشه ومغامراته مع النساء. إنها حلقة من الوهم يتواطأ على خلقها وتغذيتها مجتمع ذكوري لا يريد الاعتراف منذ قرون أن المشكلة تكمن في منظومته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والكهنوتية. هذا التواطؤ اللاواعي الذكوري وحتى الأنثوي كان موجوداً في المجتمعات البشرية كلها تاريخياً، لكن استمراره إلى العصر الحديث في بلادنا لا يمكن إلا أن يحدث بالترابط مع استمرار بنية الدولة الدكتاتورية الفاسدة، واستمرار المنظومة الاجتماعية القيمية غارقة في جهل القرون السابقة وتخلفها، واستمرار قوة سلطة شيوخ الدين الإسلامي في حراسة الموروث بكل ما فيه من مثالب وتثليب ما به من مناقب. لقد بلغ بهم الحال أن ألصقوا حديثاً برسول الإسلام يناقض القرآن الكريم، بل يظهر تراجع الرسول أمام عصبية الرجل في زمنه، فروى أبو داوود “أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله الرجل يجد مع أهله رجلاً فيقتله؟ قال: لا. قال: بلى والذي أكرمك بالحق”[6]، فادعوا أن “سعد بن عبادة قال لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني”[7]؛ نحن هنا أمام اختلاق لتشريع ديني يبيح جريمة لا مراء في إثمها وظلمها. التغيير المطلوب لإنقاذ الإنسان في هذه المجتمعات قد يحتاج إلى أجيال، لكن للأسف سلطات هذه البلاد الدكتاتورية لا تحاول التقدم بالوعي الجماعي والفردي، لأن ذلك يهدد سلطتها القائمة على جهل الناس وغرقهم بمشكلاتهم اليومية؛ ولا الإعلام ولا النخب امتلكوا شجاعة الاقتحام؛ وأيضاً بقي الدين مسلوبًا من قبل طبقة الشيوخ الجاهلة المُجهلة التي لا يمكنها الاستمرار في مجتمع واع يعرف الفرق بين العقل والنقل، بين التفكير والتقليد، بين القرن الواحد والعشرين والقرن الثامن. 1 مقال “جريمة اللاشرف في ألمانيا، المرأة الطرف الأضعف أمام الذكر المهزوم”، للكاتب، موقع بيت السلام http://wp.me/P2RRDZ-Dr 2 كتاب “الحضارات القديمة”، غريغ وولف Ancient civilizations: the illustrated guide to belief, mythology, and art.. 3 “نظرة عامة على التشريع المدني”، توم هولمبرغ http://www.napoleon-series.org/research/government/code/c_code2.html 4 دراسة ” المرأة ضحية تاريخية للتقاليد وأحكام الفقه الإسلامي”، للكاتب، مرصد مينا https://mena-monitor.org/research/المرأة-ضحية-تاريخية-للتقاليد-وأحكام-ا/ 5 “فتح الباري بشرح صحيح البخاري”، جزء 12، باب من رأي مع زوجته رجلا فقتله. 6 المرجع 4. لاحظ كيف نسبوا الغيرة بالمعنى الوارد ضمن الحديث حتى إلى الله. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى