fbpx

الحرية الدينية بين سلطة التديّن وقانون ازدراء الأديان

شكّل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعالميته التي تنطلق من فلسفة التنوع والاختلاف في الأديان والمذاهب والطوائف، مدخلاً كونياً لضمان الحريات الشخصية وللتسليم بديهياً بتنوّع المعتقدات البشرية وتثمين هذا الاختلاف، لكن تلك القوانين لم تصبح بعد مساراً إنسانياً معترف به من الجميع، ومتعارف عليه من قبل كافة الدول لتأسيس قواعد وسلوكيات مشتركة تنكسر فيها الحدود الوهمية لأعراف المجتمعات ولمنابر “حماية الله” التي تشرّع قوانينها الوصائية بعيداً عن غاية الوجود البشري وطرق معرفته للخالق.

حدود الحريّات:

رغم تطوير مفهوم حرية الرأي والتعبير، واتساع مساحته وقدرته على طرح أفكار ورؤى جديدة، إلا أن محاولة السيطرة عليه أيضاً ظاهرة عالمية تتعدد أنواعها وأشكالها بحسب نوع وشكل النظم السياسية والبنى الاجتماعية والاقتصادية. فحرية التعبير عن الأفكار والآراء مضافاً إليها الحرية الدينية المتاحة نظرياً، ليست متاحة بشكل مثالي على مستوى التطبيق، ومازالت خاضعة للحدود التي ترسمها الدول لهذه الحرية وتتغير وفقاً للظروف الأمنية والنسبة السكانية للأعراق والطوائف والديانات المختلفة التي تعيش ضمن الدولة، وثمة عوامل كثيرة تحدّ منها أو ;تُقَوْننها; في الغرب وفي العالم العربي؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية تعلّقت حدود حرية التعبير بلون البشرة، وجرت ملاحقة الأفكار الإشتراكية والشيوعية، لفترة طويلة من الزمن، وفي أوروبا مازالت إحدى عشرة دولة تطبق قوانين جنائية على مواضيع مثل معاداة السامية أو الرموز النازية أو إنكار الهولوكست.

وهناك العديد من الدول الأوروبية تتعامل مع التجديف(الإساءة للذات الإلهية، والاستخفاف بمعتقدات وأفكار ديانة ما) على أنه جناية يعاقب عليها القانون بغرامة أو سجن، وتخضع العقوبة لمعايير مشروطة بـ “الإخلال بالسلام والأمن العام” كما في ألمانيا، أو “الإساءة العامة للمشاعر الدينية، والجرائم ضد التسامح الديني” كما في بقية الدول التي مازالت تطبق هذا القانون كاليونان وإيطاليا والنمسا وغيرها.

ومؤخراً دخل قانون حظر الحجاب في العديد من دول الغرب دائرة الجدل، إذ اعتبرته غالبية الهيئات المجتمعية والدينية كالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بصفته ممثلاً للمرجعية الدينية للمسلمين في أوروبا، انتهاكاً للحرية الدينية التي تُعدّ واحدة من أوائل الحقوق التي تمّ الاعتراف بها بموجب المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فالمبررات التي قدمتها تلك الدول انطلاقاً من توجّسها في التمييز بين الجنسين والتمييز الثقافي بين أفراد مجتمعاتها واعتباره عائقاً أمام مسألة الاندماج، ورمز لقمع المرأة، كونه مرتبط بالمجتمع وليس بالشريعة، لم تقنع الجاليات الإسلامية التي تعتبره التزاماً دينياً وأخلاقياً، وأضيف إليها الربط بين الحجاب والإسلام السياسي، واعتباره تجسيداً حياً واختزالاً للإسلام بكل مقوّماته التشريعية والتاريخية وحتى الثقافية والتي دخلت بمجملها في دائرة الشك بعد أحداث 11 سبتمبر، وماتبعها من صراع سياسي وصدام أيديولوجي بين ثقافتين تم تلخيصه في “الإسلاموفوبيا”.

ورغم وجود بعض القوانين التي تقف عائقاً أمام الحريات، وتقود إلى التشكيك في الحقيقة المراد ترسيخها حول حقّ الفرد في التعبير عن الرأي والحرية الدينية، فقد سمح بالكثير مما لا تزال المجتمعات والدول العربية تُعدّه خرقاً لأمنها وتهديداً لوجودها.

الحريات الدينية وسلطة التديّن:

في مجتمعات مغرقة في التخلف وخاضعة لمنظمومات معقّدة من الإستبداد والسلطوية بكافة أشكالها، فإن مصادرة الحريات الفردية تبدو هي الشكل الأكثر واقعية. فداخل هذه المجتمعات يجري إخضاع الفرد كذات فاعلة أو مستقلّة لها حقوقها للتغييب القسري، باعتباره مرتبط أولاً بالعائلة ثم العشيرة وصولاً إلى الطائفة والمنطقة، ليشكّل امتداد لمجموعة من القيم المتعارف عليها بعدم الخروج عن قواعد المجتمع. فحدود حريته بالتعبير وإبداء الرأي متعلّقة بمبدأ “تقف حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين” وبالتالي هي رهن بالمقبول والمرفوض والحلال والحرام المجتمعي، وأي تعبير تحرري يُعتبر خروج عن الانتماء وحرمان من الوسط الاجتماعي الذي يشكّل هويته وبالتالي يعني الموت الاجتماعي والأخلاقي.

أما الحرية الدينية فتبقى محصورة بما جرى تلقينه للفرد منذ لحظة ولادته، عبر حالة طقوسية تستمر وتخضع لمنظومة تنافسية في تبنّي وممارسة الطقوس لإرضاء المجتمع، الذي يشكّل الخروج عن قواعده والتوجّه نحو النقد لبعض المسلكيات، إنقضاضاً على منظومة أخلاقية مصطنعة تجعل من “الحرية” بعمومها معادلاً للضلال والبعد عن الله والدين والإباحية الجنسية وما إلى ذلك. فالولاء للمجتمع والولاء للدين لا يشكلان مرحلتين في تطور الوعي، بل يتكاملان ويؤلفان جزءاً لا يتجزأ من الوعي التقليدي بجميع أبعاده، وهذا لا يقتصر على دين دون آخر أو طائفة دون أخرى، ولا يعكس فكرة الأديان السماوية عن الحرية، فثلاثتها انطوت على إشكالية الحرية- فالله منح إبليس حرية العصيان، وسمح بمحاورته- لكن التديّن أنتج نوعاً آخر من الفكر الديني شديد التزمّت قياساً بالنص الديني، ففهم الإنسان للدين هو الذي يحرره أو يحوّل الدين إلى شكل من أشكال الاستبداد والقمع، لتظهر أقسى تجلّياته في مسألة الحرية الدينية الخاضعة إضافة لأحكام المجتمع التي تختلف شدّتها من المقاطعة والتكفير إلى هدر الدم والقتل، لأحكام قانونية تنفيها، وتُستخدم في العديد من الحالات لمحاربة حرية التعبير والرأي.

الحرية الدينية بين حدّ الردّة وقانون ازدراء الأديان:

تباينت الدول العربية في آلية التعاطي مع الحرية الدينية، فضمّنت دساتير بعض البلدان حرية المعتقد بحدود معينة ومختلفة، بينما أنكرته دول أخرى وطبّقت حدّ الردّة المنافي لحرية المعتقد، لتصل عقوبة المرتدّ عن الدين الإسلامي إلى الإعدام، كما في المملكة العربية السعودية، والسودان واليمن وموريتانيا، أو يتم تجريد المرتدّ من بعض الحقوق المنصوصة في قوانين الأحوال الشخصية، كالإرث والحضانة وغيرها، كما في سوريا والكويت والجزائر والأردن ومصر.

وقد تضمن القانون الجزائي العربي الموحّد، الصادر عن جامعة الدول العربية، والذي أقرّه وزراء العدل العرب في نوفمبر/تشرين الثاني 1992، في (المادة 163)على عقوبة إعدام المرتدّ، وعُرّفت الردّة بأنها “الجهر بأقوال أو أفعال تتنافى مع قواعد الإسلام وأركانه عن عمد أو إصرار”، وذلك رغم تباين المواقف الفقهية حول حدّ الردّة نفسه في الشريعة الإسلامية نفسها، وخلو قوانين غالبية الدول العربية من حدّ الردّة، إضافة لمصادقة غالبيتها على الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي ينصّ في(المادة 30) على حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية دون ذكر صريح لحدّ الردّة أو لمفهوم ازدراء الأديان” السماوية” الذي مازال مطبّقاً في بعض الدول، كالسعودية ومصر والكويت والسودان والجزائر وغيرها، في قوانين مطّاطة وعقوبات تترواح بين الغرامة المالية والجلد والسجن.

إشكاليات قانون ازدراء الأديان عربياً:

بقدر ما حمل تطبيق العقوبات على ازدراء الأديان من إيجابيات في”صون المشاعر الدينية، وحماية حريتَيْ العقيدة والتعبُّد، والحفاظ على السلام المجتمعي” فإنه دخل في دائرة التماس مع حرية إبداء الرأي والتعبير والنقاش المدني العام، وحرية البحث العلمي في مسائل حساسة من تاريخ الأديان أو في مجال تفسير أو تأويل النصوص المقدّسة. فغياب الحدّ الفاصل بين المقدّس الديني والحرية الأكاديمية وحرية النقد البنّاء، لا يمكن تحديده نتيجة عدم ضبط المفهوم ومشمولات بنود القوانين وكيفية استخدامها، بحيث يعطي للحكومات الحقّ أمام خنق حرية التعبير ونقد الأديان والمؤسسات الدينية وتحصيناً لكيانات وشخصيات دينية واعتبارها أعلى من النقد، والتي تتعدّى كونها قضية دينية ومذهبية، نتيجة ارتباطهما بعملية تطوير الوعي وتراكم المعرفة، إضافة لاستخدام هذا القانون لمضایقة المعارضین ومقاضاتهم بتهمة ازدراء الدين، كما حدث في محاكمة مقدّم البرامج إسلام البحيري في مصر والشاعر الفلسطيني أشرف فياض المقيم في السعودية، وغيرهم. وغالباً يتمّ تجييرها لصالح دين أو طائفة دون غيرها، لتطبّق بشكل انتقائي وتعسّفي وتمییزي، فمعظم الدول العربية تجعل من الدين عقيدة رسمية للمجتمع والدولة معاً، رغم وجود أقليات دينية أخرى، وإن السلطة السياسية توظّف الحقل الديني وتتحكّم فيه خِدمة لأهدافِها وأغراضها السياسية، وتنحاز إلى تيار ديني إيديولوجي معيّن تجاه تيّارات دينية أخرى. فمظلّة هذا القانون لا تشكل حماية لطوائف أخرى من الدين نفسه أو لأقليات الأديان الأخرى من الاضطهاد والإقصاء، أو الإساءة والإزدراء، ولا تحميهم من خطاب التحريض على الكراهية والعنصرية الذي تأجّجت نيرانه مع انتشار الصراعات السياسية وصراعات المصالح التي زُجّ الدين في أتونها عقب أحداث الربيع العربي التي كشفت الغطاء عن أنماط التديّن البعيدة عن القواعد والأعراف الدينية، وأعلت صوت تيارات السلفية والتطرف الإسلامي المدعومة بمنابر ومؤسسات تعمل على نشر أيديولوجيتها في تكفير الآخر وهدر دمه.

ما تعيشه الدول العربية عامة من قصور في التعاطي مع حقوق الإنسان ككل، يبلغ أشدّه في طرح واقع الحرية الدينية والقوانين المضادة لها، والتي تحتاج إلى إعادة التقييم والتعريف بعد أن صار التنوع والاختلاف جزءاً من توتر المجتمعات في العديد من الدول العربية. وبدل إعلاء دين على آخر وصونه من الإزدراء في “محاكم تفتيش دينية”، فإن التوجّه نحو احترام الآخر المختلف وحقّه في الاختلاف كجزء من النوايا الإلهية للخلق، هي بداية الطريق إلى إنسانيتنا التي ضيّعتها سيوف التكفير المسلّطة على رقاب الجميع، والتي تنال من حقّ الاختيار الإنساني في عبادته ومن حقّ “الخالق” في الحساب.

هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى